إلى اليوم، لا تعتبر إسرائيل المرحلة التي امتدّت بين غزوها لبنان عام 1982، وصولاً إلى انسحابها المُذِّل منه عام 2000، حرباً رسميّة لها اسم ويوم يخلّد ذكراها. قبل أيام، انقضى 20 عاماً على تلك اللحظة التي أغلق فيها رئيس هيئة الأركان سابقاً ووزير الأمن الإسرائيلي حالياً، بيني غانتس، البوابة خلفه. خرج جنود العدو من لبنان ولكن هذا الأخير لم يخرج منهم أبداً، ظلّ كابوساً مُلحّاً يتردّد في ليالٍ تطول إلى ما لا نهاية كما يقول معظمهم.

تعالت مطالبات «المحاربين القدامى» بإعطاء هذه المرحلة اسماً، وتخليدها كمناسبة في يومٍ رسمي. لكن الحرب ظلت بلا اسم. ومنذ أكثر من شهرين، ومع وصول وباء «كورونا» إلى إسرائيل، وفرض ما يشبه «الإجازة المؤقتة» على جميع الإسرائيليين، ومن بينهم هؤلاء الجنود، قرر عدد منهم إنشاء مجموعة مغلقة في موقع «فيسبوك» تحت اسم «قصص من لبنان: ما جرى في المواقع»؛ سرعان ما قفز عدد الأعضاء فيها إلى 35 ألفاً، وبدأوا بنشر قصصهم، بمعدل 400 منشور يومياً! الدخول إلى هذه المجموعة لم يكن بالأمر السهل، إذ يُطلب من الراغب في المشاركة إثبات كونه جندياً سابقاً في لبنان، أو أحد ذوي الجنود القتلى، أو على الأقل إعطاء سبب مقنع للقائمين على الصفحة يفسر رغبته في المشاركة. ولكن دائماً ثمة «طرق وعرة والتفافية للدخول» ومن خلالها عبرت «الأخبار» إلى المجموعة، فجمعت الكثير من القصص والصور، ننشر اليوم الجزء الثاني والأخير منها:

لبنان استقبلني بِموت 13 من رفاقي
منذ زمن بعيد وأنا أبحث عن الكلمات المناسبة، فيما الذكريات تتدافع في عقلي. ولكنني قرّرت الكتابة، وليكُن ما سيكون. إنه السادس عشر من شهر أيار عام 1997 فقط قبل أيام من يوم عيد ميلادي التاسع عشر، «استقبلني» لبنان، استقبلني بينما كنت أغطّ في نوم عميق في سريري. في الساعة السادسة صباحاً رنّ الهاتف الأرضي، دخل بعده والدي إلى غرفتي، صائحاً: استيقظ... زيف يريدك. ما الذي يريده في السادسة صباحاً في يوم الجمعة؟ تساءلت.
يخبرني زيف أن عليّ التأهّب، ويضيف بنبرة حزينة وهادئة وممزقة أن الـ«سييرت» (وحدة عسكرية داخل الكتيبة مهمّتها جمع المعلومات) تعرّضت لهجوم في ساعات الليل، هناك إصابات وقتلى، موطي قائد السرية مصاب، عران مزومن قُتل، زابيك زومرفلد قُتل. ثم ساد الصمت. عران قتل! أنا اليوم بعد 23 عاماً إلّا خمسة أيام لا أذكر الدقائق التي تلت الاتصال. في الحقيقة لا أذكر شيئاً من ذلك اليوم وصولاً إلى لحظة تشييع زابيك. بعد بضعة أيام من ذلك، جنازة أخرى... وهذه المرة لعران وهنا ما زلت إلى الآن أتذكّر كلُ ثانية وكل تفصيل، وأذكر خاصّة ديفيد غرنوت ذلك الذي خسر قائده في المعركة. بعد أيام حلّ يوم مولدي بائساً؛ حيث تمّ اختياري للخدمة في موقع «الريحان». هكذا: ريحان صعوداً نزولاً وهلم جرّ. وبعد مدة، أنا في البيت مرّة أخرى في نهاية الأسبوع، وها هي الطقوس تتكرر: في 06/07/1997 بعد تقريباً شهر ونصف على موت عران، هاتف آخر: أترك كلّ شيء وتعال حالاً إلى الوحدة. «أوك» صبابا (حسناً) ولكن لماذا ما الذي حصل؟ نداف قُتل وينقطع الاتصال. كان ذلك القتيل، نداف ميلو، قائد وحدتي... قُتل خلال معركة الرجل الذي دعمني ووقف إلى جانبي وشجعني لكي أذهب إلى لبنان، القائد الأسطوري في لواء المظليين... قُتل.

صورة التقطها الجندي من موقع الريحان العسكري

عام 1997 كان عاماً ملعونا والأكثر دموية على الإطلاق في لبنان؛ فبحسب ما أعرفه قتل 112 جندياً إسرائيلياً بينهم الجنود القتلى الذين سقطوا في كارثة المروحيّتين. في 30/07/1998 تلقى جرعة جزئية إضافية؛ حيث تحوّل موقع «الريحان» في خلال ثوانٍ من الهدوء والسكينة المطلقة لمشهد الطبيعة الساحر إلى ساحة حرب. اختتمنا هذا اليوم مع عدد لا بأس به من الجرحى... وشاحار منيس قُتل. لقد طالتني شظايا في العنق بعدما طرت إلى الحائط، وهناك تركت نظارتي على أرض بلدة الريحان اللبنانية، ولكنني حملت في أعماقي هذا التاريخ إلى كل مكان ذهبت إليه.
في عام 1999، قُتل كلّ من أيتان باليحسن قائد الـ«سييرت»، وليرز طيطو وديفيد غرنيت. قُتل الأخير بعدما كان قد فقد عران شمير قبل سنة وتسعة أشهر. توقفت عن عدّ القتلى، إذ عرفت أن لا يزال بانتظاري عام إضافي في الخدمة الإجبارية. كلّ ما فعلته أنني صليّت كي لا يسقط لنا مزيد من القتلى. يكفي «خلص».
في 24 أيار 2000 يوم مولدي الـ22 خرج الجيش الإسرائيلي من لبنان، عصفت النيران بموقع الريحان. انتهى هذا الخراء. لا شكّ أنه كان يوماً سعيداً لأننا خرجنا من هناك. ولكنه مليء بالأحاسيس والعواطف الصعبة. كنت ابن 22 عاماً فقط وكان صعباً عليّ أن أحتمل ذلك كلّه... كما معظمنا، سافرتُ للسياحة إلى اليابان ثم أستراليا وبعدها نيوزيلاند... ثم عُدّت إلى البلاد، انغمست في الروتين والعمل والترفيه، ولكن كل سنة في يوم الذكرى أعيش مجدّداً كل الذكريات.
وفجأة مرة أخرى في 2006 حرب لبنان الثانية! تلحق بي، وهذه المرّة أيضاً عبر الهاتف عندما كنتُ في وسط دورة إرشادية في بيتح تكفا (مستوطنة في مركز فلسطين المحتلة). فجأة هواتف جميع المشاركين ترن، نقوم ونخرج...
آلو؟ جيش الدفاع الإسرائيلي نسيني؟ بضع مكالمات مع «الثالوث الرئيسي»، أخيراً أصل إلى مارتين برهوم (متحدّثة عبر الهاتف) وأقول لها، معك أو من دونك (بمعنى فيكِ وبلاكي) سأُطلب للخدمة. فَهِمت أن لا مناص من ذلك، فقالت إن هناك وحدة في صفد في مستشفى.. لم أدعها تكمل حتى صرت في صفد في المستشفى. لقد خدمت في الريحان لا تعلموني ماذا عليّ أن أفعل، قلت لهم.
في 23/08/2006 دخلنا وقف إطلاق النار. ذهبت لأنام في حدود الساعة الثانية بعد منتصف الليل، وبعد دقيقتين فقط يوقظونني، أنتفض من السرير، فأجد نفسي في غرفة التروما (الصدمة)، ولا أريد أن أصف المشهد فقط حرصاً على مشاعر العائلة... فقط في نهاية الحدث في اللحظة التي خلعت بها الساعة عن يد أليكس أساف، تسقط يده في يدي ويعلن الطبيب موته. أليكس كان القتيل الأخير في حرب لبنان الثانية. أليكس كان جندياً وحيداً ما حوّل الحدث إلى مصيبة عظيمة جداً. لم أزر قبره. لم أزر عائلته المفجوعة. ولم أستطع أن أتحدث معهم مرّة واحدة.
فاتحة لبنان عام 1997 بدأت بالنسبة لي مع قتيل واحد من رفاقي، ولكن لبنان أغلق على موت 13 قتيلاً من رفاقي الآخرين... لم يُجهزني أحد لصفحة «قصص من لبنان هذا ما جرى في المواقع». ببساطة أغلقت جروحي التي ظلّت مفتوحة ــ فهمت أننا كلنا، من دون استثناء، لم نخرج من هناك، ما زلنا في الريحان والعيشية وسجد، وفي قلعة الشقيف ودلاعت... إلخ. كل واحد منا ترك شيئاً منه هناك، ولكن كل واحد منا أخذ معه لبنان إلى الأبد.
(عيران كومبي شنيف)

■ ■ ■


«من الشمال سينفتح الشر»
مرّ أسبوعان على انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان. وأخيراً، عدت إلى البيت. بعد الكثير من المصائب والمآسي الطويلة. استقبال سريع، تنقلت من موقع إلى آخر، من ضمنها موقع «الردوف» (تعني الملاحق) الذي كان داخل الأراضي اللبنانية. أخذت موافقة للعودة إلى البيت لكي أستريح قليلاً من الضغوط العاصفة. وصلت وكان «ينتظرني» على الطاولة شريط (نعم، تلك فترة الكاسيت)، وعلى الفور تذكرت أنه قبل حوالى شهر ونصف عندما خرجت من موقع بنت جبيل، كنت قد استعرت كاميرا من ضابط الاستخبارات الذي كان في الموقع؛ إذ أردت التقاط الصور للرفاق في الموقع، لحفظها كذكرى أخيرة من هذا المكان. ذهبت إلى استيديو التصوير، طلبت من المصوّر تظهير الشريط (الكاسيت). وبعدما ظهّرها رحت أتفرّج: ها أنا هنا في الموقع، وها أنا هنا أصعد درج المبنى ذا الطبقات الأربع حيث كنا... نظرت حينها كمن يقول لنفسه إنني لن أعود إلى هذا المكان مرّة أخرى.


مرّت عشرون سنة، وقلبي لم يُفوّت مرّة واحدة تلك المقاطع والأحاسيس والذكريات، وحياة ذلك الشاب الذي لم يفهم مرّة واحدة في التاريخ أنه كان جزءاً من التاريخ نفسه. عشرون عاماً بالضبط، الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام، ها هم اليوم يتسرّحون من الخدمة العسكرية. هم أيضاً، مثلنا بالضبط، وكما الجيل الذي سبقنا، لا يزالون غير بعيدين من هناك، يقفون على الحدود، عارفين أنه «من الشمال سينفتح الشر» (سِفر يرمياهو، الجزء الأول، الآية 14) ويدركون في داخلهم أن المهمّة التي أُلقيت على عاتقنا هي «الدفاع عن الحدود الشمالية لإسرائيل».
(يوفال ربيد، جندي خدم في بنت جبيل)

■ ■ ■


يوم هربنا
«يوم الهروب من لبنان. لا يزال إلى اليوم يلاحقنا هذا التاريخ... يوم مرعب، محزن. ما زلت أسمع صرخات الأطفال الصغار. على مدار العشرين عاماً، كلّ يوم أستيقظ وأقول لنفسي إنه كابوس مخيف، ولكنني وللأسف أدرك أنه واقع وليس كابوساً. في هذا اليوم (23/05/2000) فرح الطرفان: العدو (حزب الله) والصديق (إسرائيل). ونحن؟ جيش لبنان الجنوبي (جيش العميل أنطوان لحد)؟ ماذا بالنسبة إلينا؟ لا جواب. الحزن والغضب يرافقاننا حتى اليوم. يجب أن نتذكر أن هذا تاريخ الهروب من لبنان، وتاريخ إهمال (الاستهزاء به) جيش لبنان الجنوبي».
(ريما قطيش، من أصل لبناني، فرت مع عائلتها إلى إسرائيل)

■ ■ ■


سترة الجندي السعودي التي صارت ملكي!
بينما كنا نشقّ الطريق (إجراء لتأمين الطريق للوصول إلى موقع عسكري أو مكان ما)، تعرّضنا لإطلاق نار من قناص. وبعد ذلك بأيام، بدا لنا أن القناص قد اختبأ في أحد المباني في قرية مهجورة. غضب قائدنا وقرّر أنه يجب وضع حدّ لهذا القناص. نصبنا مدفعية، وقال لنا القائد: كلّ شيء سيخرج باتّجاهنا من هناك (من القرية) سنرمي عليه النار. مدفعية أخرى كانت قد دخلت المنطقة التي كانت خاضعة لسيطرة الجيش السوري، ترافقها مجموعة من جنود المشاة. وهكذا عبرنا من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت باحثين عن المهاجم. ولكنّنا لم نجده. قرر القائد بعد أيام أن نجري تمريناً، ومن على بعد 150 متراً بدأنا نرمي M203... وخلال ذلك أمرَني بالرمي من شباك صغير إلى مكان ما مقابلنا، لم أنجح.. إذ لسبب ما ربما رياح قوية أو شيء من هذا القبيل، انحرفت المقنبلة فاندلع حريق حيث رميت.


في أثناء خروجنا من القرية وجدتُ ما يبدو أنه خرقة قماش فأخذتها لأنظّف بها السلاح. ولكن إلى جانب القرية كان هناك حقل قمح رائع، وقد وصلتهُ النيران التي سببتها المقنبلة، ومع الغروب أصبح الحقل أسودَ. حزنت كثيراً على مشهد الحقل، وعلى الهباء واللا جدوى لما قمنا به، حيث لم ننجح في الوصول إلى القناص، فيما نحن في محيط القوات السورية (التي لا لعب معها)، ومن دون توفير طعام أو لباس بديل، ومن دون كتب أو روايات، ومن دون أصدقاء وعائلة وحتى من دون قضاء مجرد أيام روتينية عادية، ومن دون صلوات في الكنيس. في النهاية أخذت ما بدا أنه خرقة قماش لأكتشف لاحقاً أنها «جاكيت» جميل، لبسته عندما كنت أحرس في الموقع وإذ بي أتنبه إلى كونه لجندي سعودي... ما الذي كان يفعله هذا الجندي هناك؟ ولماذا كان جيشهم (الجيش السعودي) يستورد بزّات جنوده من باريس؟ وماذا كانت تلك القرية المهجورة؟ منذ ذلك اليوم احتفظت بالجاكيت، وكلّما نظرت إليه أتذكر حقل القمح الذي حرقته المقنبلة.
(بني برل، جندي خدم في القطاع الغربي، القصة من عام 1984)