كانت اليونان من بين الدول التي استشهد بها النائب إبراهيم كنعان، في مؤتمره الصحافي أمس، أثناء ذكره للدول التي التفّ فيها الشعب حول حكومته في زمن الأزمات، داعياً الجميع إلى التعاون. سنة 2015، وثق اليونانيون باليساري «الراديكالي» ألكسيس تسيبراس، وخطابه الداعي إلى وقف «إذلال اليونانيين» وإنهاء سياسات التقشّف المُجحفة بحقّهم، فمنحوه أصواتهم ليصبح رئيس حكومتهم. دخل رئيس الوزراء مفاوضات مع الترويكا الأوروبية (المفوضية الأوروبية - البنك المركزي الأوروبي - صندوق النقد) لمناقشة إعادة جدولة ديون اليونان، وكان يُفترض به أن يتسلّح بالـ61% من أصوات اليونانيين التي عارضت إجراءات «الترويكا». ولكنّ تسيبراس «سلّم» شعبه، وضحّى بالمسؤولين في فريقه الذين كانوا مُعارضين لقادة الاتحاد الأوروبي، موافقاً في المقابل على حماية مصالح قطاع المال والمصارف الأوروبية على حساب الطبقات الاجتماعية اليونانية. الحكومة خانت الشعب اليوناني، على العكس ممّا ذكره كنعان أمس. ولكنّه مُحقّ بالاستعانة ببلد الإغريق كمثالٍ، لأنّ ما قامت به «لجنة تقصّي الحقائق» يُشبه جدّاً تصرّف تسيبراس مع شعبه. وما تهنئة رئيس الحكومة السابق سعد الحريري لها، سوى دليل على أنّ كفّة من رُجّحت. فقد كتب على «تويتر» أنّه «من موقع الاختلاف السياسي، أُسجّل لرئيس لجنة المال والموازنة الجهد الذي قام به مع لجنة تقصّي الحقائق، وأُحيّيه على مؤتمره الصحافي تعبيراً ومضموناً. خطة أولى مُتقدّمة على طريق إعادة التوازن إلى موقف لبنان التفاوضي وإعادة الثقة بنية حقيقية للمحافظة على نظامنا الاقتصادي الحر وحفظ أموال المودعين. عسى أن يُعطي المجلس النيابي اللبنانيين أملاً في كبح الخطابات الخرقاء والخطط العشوائية والتخبط الأهوج».مرّات عديدة كرّر كنعان في حديثه أنّ أعضاء اللجنة ليسوا «حزب المصارف». لماذا إذاً كان يُخاطب الحكومة بحدّة واستهزاء، ويرفض كلّ ما ورد في خطتها من إجراءات تمسّ مصرف لبنان والمصارف، وتحديداً إعادة هيكلة الدين العام وإشراك المودعين الكبار في إعادة رسملة المصارف (Bail in)؟ وإذا كان فعلاً كما قال إنّه «لم ولن نكون طرفاً في الخلاف بين مصرف لبنان ووزارة المال»، فكيف جزم بأنّ الأرقام التي قدّمتها هي الخطأ، وشنّ ضدّها هجومه، وأرقام المصارف هي الصحيحة بدليل أنه لم يمسها بسوء؟ علماً بأنّ واجبه الوطني يُلزمه، وزملاءه، بتحديد موقعهم في هذه اللحظة المصيرية من تاريخ البلد: تأمين مصالح سارقي أموال الناس وتحميل الكلفة لكلّ المواطنين، أم إجبار من كَسِب لسنوات وبطرق غير مشروعة من الأموال العامة على تعويض الخسائر؟ حتّى «الحياد» لم يلتزم به مُمثلو الشعب... لأنّ ما طرحته اللجنة النيابية ليس «حلّاً» أو تدقيقاً، بل تسوية لإنقاذ المصارف وإعفاء «المركزي» من تحمّل المسؤولية. ولكن وجود كنعان على رأس اللجنة، ورغبته في تظهير العمل كأنّه «إنجاز شخصي»، لا يعني تحميله وحده مسؤولية فتح باب المجلس النيابي أمام جمعية المصارف. فإلى جانب كنعان، جلس النواب نقولا نحاس (تيار العزم) وياسين جابر (حركة أمل) ورلى الطبش (تيار المستقبل) وميشال معوّض (حركة الاستقلال)... وجميع زملائهم في الكتل النيابية ليُخرّجوا الانقلاب على خطّة الحكومة، ويسمحوا لتجمّع المصارف بالمُجهارة: «لن تأخذوا توقيعنا على تحمّل الخسائر». خطة «التعافي المالي» التي تبنّتها الحكومة فيها العديد من الفخاخ، والإجراءات التي تحمل تبعات خطيرة على حياة معظم الطبقات الشعبية، ويُستغرب كثيراً اعتبارها أنّه لا حلول خارج صندوق النقد الدولي. ولكنّ «أهمّ» ما فيها كان توصيف الواقع المالي - الاقتصادي في البلد، وتحديد الخسائر وتحميل جزء كبير منها إلى أصحاب المصارف، والتعهد باستعادة الأموال المُهرّبة والفوائد المرتفعة على الودائع والهندسات المالية التي استفادت منها قلّة، وإعادة هيكلة مصرف لبنان والمصارف... هذا الشقّ تحديداً هو ما اختارت اللجنة النيابية شيطنته.
إبراهيم كنعان فخور بأنّه ناقش مع المصارف خطّة الحكومة، وطلب منها رأيها، مثلما ناقش الأرقام مع الحكومة، ممثلة بوزير المال، «أنتم كحكومة ألا تتحدّثون مع المصارف ومصرف لبنان لتُراجعوا أرقامكم؟». من الطبيعي أن تتحدّث الحكومة مع «المركزي» لتسأله عن عمله وعمل «المصارف» وتُسائله، ولكن من غير الطبيعي أن يُشَرَّع مجلس النواب أمام جمعية لا وجود لها في القانون، وهي «المُتهّم»، لتبيان رأيها حول كيف تُفضّل أن تتم مُحاسبتها! فضلاً عن أنّ مُستشار الحكومة، شركة «لازارد» التي دُفع لها لتُدقّق في الأرقام، استحصلت على كلّ المعلومات من مصرف لبنان، وزوّدها المديرون في «المركزي»، الذي انتدبهم الحاكم رياض سلامة للتواصل معها، بكلّ الشروحات التي احتاجت إليها.
هال لجنة تقصّي الحقائق الفارق الكبير بين أرقام الحكومة وجمعية المصارف، فقرّرت التحرّك. «241 ألف مليار مجموع الخسائر، منها 73 ألف مليار في المالية العامة، أي دين على الدولة. من أجل تنظيف ميزانية الدولة، وخفض معدّل الدين على الناتج المحلي نقلوا هذا المبلغ إلى مصرف لبنان، كأنّ المصرف في جزر الكاريبي»، قال كنعان، مضيفاً أنّه «على أساس لا يوجد هيركات، تبيّن أنّ هناك شطب 75% على سندات اليوروبوندز (سندات الدين الخارجي) و40% على سندات الخزينة بالعملة الوطنية. من أقرضهم؟ معروف أنّ المصرف يُقرض الدولة، والمصارف مع مصرف لبنان اكتتبوا في اليوروبوندز. عوض أن نردّها إلى المصارف، قالوا لهم إنّهم لن يدفعوا». هذه النقطة طُرحت في إحدى الجلسات بين الوفد اللبناني ووفد صندوق النقد، فكان الجواب أنّ البلدان التي أعادت هيكلة ديونها المحلية قليلة جدّاً، فيندر أن يوجد «نموذج مُشابه للبنان في العالم». اللافت أنّ الدائنين الخارجيين يتفرجون على الكباش الحكومي - النيابي حول نسبة الشطب من سندات الدين الخارجية، فكيف ستتمكّن الحكومة في المستقبل من مفاوضتهم من دون أن يستغلوا الأمر ليفرضوا شروطهم؟ أما بالنسبة إلى الدين الداخلي، فحين تؤيّد اللجنة النيابية عدم شطبه وتصرّ على تسديده كاملاً للمصارف ومصرف لبنان، فهي بذلك تقول للبنانيين بطريقة غير مُباشرة إنّهم سيبقون أسرى الدين والفائدة عليه التي تمتص نصف إيرادات الدولة. ولكنّ سيف الابتزاز جاهز لدى النواب: «حدا بيطلب وبيشطب؟ ليش بدّو يعطيك؟ما من دولة اقتطعت من سندات الخزينة بالعملة الوطنية، لأنّ الدولة تسدد بموجبها للمستشفيات والجيش والمتعهدين والضمان الاجتماعي، وشطبها يعني شطب مستحقات هذه الشرائح.»، سأل كنعان، مُشيراً إلى حاجة الحكومة لـ1200 مليار ليرة لتوزيعها كإعانات على الفئات المحتاجة وبعض القطاعات. تغافل كنعان عن أنّه لأجل هذا السبب تحديداً، طرحت «لازارد» وخطة الحكومة إعادة هيكلة القطاع المصرفي وخلق قطاع جديد وتنظيف ميزانية مصرف لبنان، والإتيان بالأموال الجديدة. فالخطة، كما أعلن المدير العام المستقيل لوزارة المال آلان بيفاني، تقضي بـ:
- استرداد 10 مليارات دولار من الأموال المُحوّلة إلى الخارج خلافاً للأصول.
- استرداد 20 مليار دولار من الفوائد المدفوعة بشكل غير مُبرّر.
- ترك 15 مليار دولار كخسائر في ميزانية البنك المركزي.
- واعتبار رأس مال المصارف ومصرف لبنان يُساوي 13 مليار دولار، فلا يتبقى من الخسائر سوى 3 مليارات دولار، ستكون هي فقط خاضعة لعملية «Bail in» (إشراك المودعين الكبار في إعادة رسملة المصارف مباشرةً أو من خلال مساهمتهم في شركة وسيطة). نسبة هذا المبلغ لا تتجاوز 13% من مجمل الودائع في الحسابات التي تفوق 10 ملايين دولار، ويبلغ عددها 963 حساباً من أصل 2.7 مليون حساب.
سَخِر كنعان من هذه النقطة أمس، مُصرّاً على أنّ الـ«Bail in» «هو «هيركات» وإجراء وهمي»، واعتبر أنّ «الاكتتاب بصندوق الأموال المنهوبة كمن يبيع المودع سمكاً في البحر». إذاً كيف فعلتها السودان وسوريا والسعودية، وتُحاول مصر حالياً تطبيقها؟
قال مستشار رئيس الجمهورية إنّ المشروع بديل سيدفع ثمنه اللبنانيون


أما الأخطر في حديث كنعان، فهو حديثه عن قيمة قروض القطاع المتعثرة. تبيّن لهم وجود فارق بقيمة « 26 ألف مليار بين ما تطرحه الحكومة وحقيقة أرقام القروض المتعثرة. المشكلة أنّ الحكومة تُدرك أنّها مُخطئة، ولكن يجب أن يتحمّل أحد غيرها الخطأ». ظهر هذا الفارق لأنّ اللجنة النيابية قرّرت احتساب أنّه يُمكن للمصارف الاستفادة من الضمانات العقارية التي على أساسها تُعطي القروض. تشرح مصادر اقتصادية مُطلعة أنّه بحسب توقعات الخطة الحكومة «ونتيجة انهيار سعر الليرة، والتضخم في الأسعار، لن تعود الأسر والمؤسسات قادرة على تسديد ديونها. ولأنّ الهدف هو إعادة تفعيل الاقتصاد وعدم تشريد الأسر، تقرّر شطب الضمانات العقارية، أي عدم مُطالبة الناس بها». ولكن ما اعترفت به اللجنة النيابية، أنّه يجوز للمصرف، حين يتعثّر فرد أو مؤسسة في تسديد قرضه، مُصادرة ضمانته العقارية. «مَن المطلوب إنقاذه: المصارف أم الناس والاقتصاد؟»، يسأل أحد الاقتصاديين. بالنسبة إلى لجنة «تقصّي الحقائق»، الجواب محسوم. ولكي تحمي المصارف، لا تُمانع بيع الأملاك العامة. قال كنعان أمس إنّه «لا يمكن اعتبار الدولة مُفلسة طالما أصولها وموجوداتها متوافرة»، ما يعني بيعها عند الحاجة والقضاء على مستقبل الأجيال القادمة، بما أنّ تسييل هذه الموجودات سيذهب في خدمة النظام الريعي نفسه، عوض تحفيز الانتاج والاقتصاد، وسيكون مُستحيلاً على «الدولة» إعادة تكوين أملاكها وموجوداتها.
لعلّ أفضل تعليق على مؤتمر كنعان هو ما نشرته «فوربس» العربية، أمس، في مقابلة مع المستشار الاقتصادي لرئيس الجمهورية، والمُشارك في وضع خطة الحكومة المالية، شربل قرداحي، إذ قال: «المشروع بديل سيدفع ثمنه اللبنانيون العاديون. يُمكن أن يُنقذ ميزانية المصرف المركزي، ولكن لن يُنقذ المصارف اللبنانية وسيزيد من بؤس اللبنانيين». اتّهم «المركزي وبعض المصارف وبعض البرلمانيين» بتطيير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأنّها ستمسّ بمكتسباتهم، «وإذا نجحوا فسننتقل من أزمة تموينية إلى أزمة تمويلية، أي لا نقدر على تأمين استيراد المواد الاستهلاكية». أما الردّ الأهم في كلام قرداحي فهو تحديده المعركة بين «فريق إصلاحي ومجموعات تُريد الحفاظ على امتيازاتها وتُدافع عن منظومة مُترسخة».