لبنان فقدَ توازنه. عبارة تختَصِر المشهد الذي انزلقت البلاد إليه، على المستويات كافة، وسطَ تصاعُد التحذيرات الخارجية، آخرها من وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان الذي شدّد أمس على أن «الوضع في لبنان مثير للقلق، والوضع الاجتماعي يزيد من مخاطِر العنف». وليسَ أدلّ على وصول المأزق إلى مستوى غير مسبوق، سوى مسارعة سفراء الدول في بيروت إلى عقد اجتماعات لافتة تقول مصادِر مطلعة أنها «تأتي في سياق التباحث في التوترات المتزايدة على الساحة اللبنانية وحجم الخطر، إلى جانِب ما يُمكن أن يعكسه من تأثيرات على دول محيطة»، إذ لم يسبِق للصراع حول تموضع لبنان أن اكتسب هذه الأبعاد الخطيرة منذ العام 2005، حيث استقبل السفير السعودي وليد البخاري، يومَ أمس، السفير الإماراتي حمد الشامسي والسفيرة الأميركية دوروثي شيا والسفير البريطاني كريستوفر رامبلينغ. تأتي لقاءات هؤلاء، على وقع تزايد مؤشرات البؤس الاجتماعي التي تحوّل الشوارع يومياً الى قنابل موقوتة، يُخشى انفجارها أمنياً، عدا عن التوجس من سعي طرف ما إلى توظيف الغضب الشعبي في حسابات سياسية.ولم يُعد ممكناً قراءة التفاصيل اليومية التي يعيشها المواطنون من خارِج مسار الانهيار. المتاريس التي ترتِفع مقطّعة أوصال الطرقات اعتراضاً على الوضع المعيشي، مظهر من مظاهر الفوضى الأهلية التي دخلت فيها البلاد، ومن المرجّح أن تتوسع في المرحلة المقبلة. وهو ما لا يُمكن فصله أيضاً عن المسرح السياسي الذي يشهد معارك داخل الحكومة التي يتقاتل «أهلها» على كل الملفات «السيادية» والاقتصادية والمالية والاجتماعية، أو خارجها بين مختلف التيارات والأحزاب التي أعاد الصراع حول هوية لبنان إحياء مشاريعها التقسيمية أو المتآمرة على المقاومة، ولا سيما بعدَ رفع عنوان «التوجه الى الشرق» في معرض البحث لبدائل من الدولار الذي تستخدمه الولايات المتحدة الأميركية لتجويع لبنان مقابل السلاح، فضلاً عن المعارك الدائرة بين الحكومة والقطاع المصرفي والبرلمان.
مع ذلك، تقِف الدولة عاجزة عن فعل أي شيء. عاجزة عن حماية الناس ولقمة عيشهم وأمنهم الغذائي والاستشفائي والتعليمي، فيخرج المسؤولون فيها للتباكي على الماضي أو الإرث الثقيل الذي كانوا شركاء في صناعته، بدلاً من الذهاب الى اتخاذ قرارات صادمة تفتح ثغرة في جدار اليأس. ويُترجم هذا العجز إخفاقاً في اعتماد أرضية موحدة لأرقام الخسائر المالية أو توزيعها في معرض التفاوض مع صندوق النقد الدولي على برنامج تمويل إنقاذي أصبحَ بعيد المنال، وهو ما عبّرت عنه بصراحة وزيرة الدفاع زينة عكر حين قالت «إن المجتمع الدولي يُقفِل علينا كل شيء». مع ذلك، الحكومة تقف مكانها، لا تريد التحرك نحو خيارات جديدة مخافة إغضاب الغرب، لكنها في المقابل لم تقُم بالحد الأدنى المطلوب منها لإقناع هذا الغرب بمساعدتها، أقله حتى يكون لديها حجة لفتح أبواب جديدة وإدارة ظهرها لمن يريد إطباق الخناق على لبنان. حتى إن من بين وزرائها من يشارِك في الحصار عبرَ قرارات معيشية مجحفة، كما فعل وزير الاقتصاد راوول نعمة في موضوع الخبز، حيث وقّع أمس قرار رفع سعر الربطة 900 غرام لتصبح 2000 ليرة لبنانية، أو قرارات تؤكد القبول بالسطوة الأميركية كما حصل مع قرار القاضي محمد مازح وحالة الاستنفار الرسمية ضده مرضاة للسفيرة الأميركية دوروثي شيا.
أمس، حملَ الإخفاق على كل المستويات موجة جديدة من إقفال الطرقات ساحلاً وبقاعاً وشمالاً، اعتراضاً على الارتفاع الجنوني في سعر صرف العملة، وما يرتّبه من زيادة جنونية في الأسعار، ما جعل السكان ممنوعين من شراء حاجياتهم إلا وفق أعداد محددة من السلع إن وجدت، ولدى المحال التجارية التي باتَ بعضها يفضّل الإقفال راهناً، ما يعيد الى الأذهان أهوال الحرب الأهلية، في ظل التقنين وشح الفيول والمازوت وانقطاع في خدمات الاتصالات والإنترنت حتى في مؤسسات رسمية.
وفي ظل عودة الحديث عن تطيير الحكومة، نظراً إلى غيابها النافر عن واقع ما يحدث، لا يزال مجلس الوزراء يعيش ارتدادات الجلسة الأخيرة، نتيجة الانقسام بشأن عمليات التدقيق المالي المقرّرة في مصرف لبنان، بعد أن اعترض وزراء حزب الله وحركة أمل على طلب الحكومة تكليف شركة «كرول» القيام بعمليات تدقيق جنائي في البنك المركزي لارتباطها بأجهزة أمنية إسرائيلية، في مقابل إصرار رئيسي الجمهورية والحكومة عليها، وسطَ توجيه اتهامات لرئيس مجلس النواب نبيه برّي بأنه يتحّجج بذلك منعاً لإجراء أي تحقيق جدي بشأن الخسائر. لكن حتّى وإن كان ذلك صحيحاً، يبقى من غير المفهوم تمسّك الرئيس ميشال عون بها، رغم كل التقارير التي وصلت الى المعنيين حول شبهات عمل الشركة. كما من غير المفهوم في المقابل عدم تقديم وزير المال غازي وزني لبديل جدي، يستطيع القيام بتحقيق جنائي في دفاتر مصرف لبنان، بدل الاكتفاء بترشيح شركات تتولى حصراً التدقيق المالي العادي، لا التحقيق الجنائي.
من غير المفهوم تمسّك عون بشركة «كرول» رغم ارتباطها بأجهزة إسرائيلية


من جهة أخرى، أكد رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، أمس، أنه «لن يقفز من مركب الممانعة، وخاصة أن لا قيمة للمراكب الأخرى». وفي حديث تلفزيوني على قناة «الميادين»، قال إن «الأزمة التي يعيشها لبنان هي نتيجة تراكم سنين طويلة من النظام الاقتصادي القائم، والحصار الاقتصادي المفروض على لبنان هو لكونه دولة ممانعة». واعتبر أن «الضغط الأميركي على لبنان يتم اليوم من خلال صندوق النقد الدولي وشروطه»، موضحاً أن «السياسة المالية هي التي سببت الانهيار، لكن ثمة جهات تستثمر الوضع للضغط على المقاومة وسوريا». واعتبر فرنجية أن «الوقت اليوم هو للمعالجة، والبعض في فريق 8 آذار يريد تصفية حسابات على حساب المرحلة السابقة»، مشدداً أنه لن يتخلى عن حلفائه «ولا عن الحكومة، حتى ولو سأدفع الثمن إلى جانبهم، لكن لي رأيي في الموضوع الاقتصادي، فإن ما يحصل غير مقبول». وعن رئاسة الجمهورية، قال «يهمني أن يكون رئيس جمهورية لبنان حليفاً لمحور المقاومة، والظروف هي التي تقرر اسم الرئيس».