عن بداية النّهبيحتدم النقاش في لبنان اليوم حول اعادة تعريف البلد واكتشاف «جوهره»: الاقتصاد الحرّ، العلاقة مع الغرب وسفاراته، «الاتجاه شرقاً»، الخ… هذا فيما الكيان يواجه حالة أزمةٍ وانهيار تعجز نخبه - بنيوياً - عن التعامل معها. في لبنان، كما العادة، تأخذ هذه الأسئلة «الكبيرة» غالباً طابعاً محلويّاً و«ريفيّاً». يذكّر أحد الأصدقاء بأنّه حين يتكلّم السياسي اللبناني عن قداسة النظام المصرفي، أو ضرورة تنفيذ كل ما يأمر به صندوق النّقد، أو حتمية التبعيّة للغرب والخليج، فإنّ ما يدور في عقله ليست دوماً حسابات استراتيجيّة أو اقتصاديّة، أو اعتبارٌ لحاجات الناس الملحّة وهول الأزمة؛ بل إنّه - ببساطة - لا يقدر على تخيّل عالمٍ (ولبنان) لا يعود فيه قادراً على زيارة اوروبا مرتين أو ثلاثاً في السنة، والجلوس في مقهى في باريس. هذه ليست أمورٌ تدخل في حساب أكثرنا، لكنها أساسية عند البعض - هذا قبل أن ندخل في شبكات المصالح والرواتب والاستتباع.
القصّة هنا ليست لبنانيّة بحتة، وهي لم تبدأ البارحة. حين يكتب دارسو السياسة عن بلادنا فهم - لأنّهم مؤرّخون سيّئون - كثيراً ما يختارون مرحلة «الاندماج في الاقتصاد العالمي»، خلال القرن التاسع عشر، كنقطة انطلاق تاريخنا. ولكن هذا الخيار لم يأتِ عن هباء، فتلك كانت بالفعل مرحلة «القطع» التي أسست في الوقت نفسه لكلّ ما يحيط بنا اليوم. ولكنّ التسمية، بدايةً، مضلّلة، المسألة ليست أنك كنت قبل ذلك تعيش في عزلة وانقطاع، فـ«اندمجت» بالعالم الأوسع. انت كنت دائماً مندمجاً ضمن منظومة اقتصاديّةٍ ما أكبر من اقليمك. نحن نتكلّم على أشكالٍ تاريخيّة مختلفة من الدّمج والتشابك، وعن نمطٍ معيّن لها، هو تحوّل المنظومة الغربيّة الى منظومة عالميّة ألحقت بها كلّ ما عداها وحوّلتنا الى هوامش وأطراف (بتعبير والرستين، كنت تجد حتى في الأقاليم الصغيرة، «نظام - عالم»، أي عالماً مصغّراً ضمن اقليم، بين اجزائه تكاملٌ وترابط وتقسيم مهام، وهو يتبادل بدوره مع «أنظمة - عالم» وأقاليم أخرى. ما حصل في القرون الماضية، يقول والرستين، هو أن «النظام - العالم» الرأسمالي الاوروبي قد توسّع حتّى أصبح «نظاماً عالميّاً» بحقّ على مستوى الكوكب).
من جهةٍ أخرى، فإنّ العمليّة لم تكن مجرّد تحوّلٍ اقتصاديّ بسيط أو تبديلٍ في خيارات التجارة جرى في اوائل واواسط القرن التاسع عشر. نحن نتكلّم على عمليّةٍ شاملةٍ وعميقة غيّرت المجتمع بأكمله. صعدت هويّات جديدة ونخب جديدة ومدن جديدة، انقطعت صلاتٌ وطرقٌ تجارية تاريخيّة وحلّت مكانها بدائل بحريّة، وتحوّلت الجغرافيا الاقتصادية في اقليمنا بشكلٍ كامل. كان الانقلاب في حالاتٍ كثيرة سريعاً وصادماً: في دمشق، مثلاً، وخلال أقل من ست سنوات (بين 1839 و1845) انخفض عدد أنوال الحرير في المدينة من أكثر من خمسة آلاف نول الى أقلّ من ألف مع اجتياح القطنيات الاوروبية الرخيصة للسوق (انظر فصل شيري فاتر في كتاب ادموند بيرك «الصّراع والبقاء في الشرق الأوسط الحديث»). سيعود قطاع النسيج في سوريا الى العمل، ويتعافى تقريباً بعد عشرين عاماً، ولكن وفق قواعد وآليات جديدة، ولم تمرّ هذه الهزّة من دون آثار سياسيّة عنيفة (شرح الزميل الأمجد سلامة، في مقالٍ على هذه الصفحات، كيف ساهمت أزمة النسيج والحرير في اندلاع الحرب الأهلية والمجازر عام 1860 في سوريا وجبل لبنان).
وعمليّة بناء هذه المنظومة، التي ولد لبنان في كنفها ومن رحمها، لم تجرِ على دفعةٍ واحدة كما يتصوّر البعض. حتّى حين دارت سفن البرتغاليين حول افريقيا في القرن السادس عشر، وأسّسوا لطريقٍ مباشر مع شرق آسيا، فإنّ ذلك لم يهمّش المتوسّط ويدمّر تجارته فوراً. أبقى البرتغاليون على الأسعار مرتفعة فظلّ هناك، لأكثر من قرنٍ ونصف، حافزُ للتجارة البريّة، وظلّ تجار البندقية يشترون التوابل والسلع الشرقيّة من شرق المتوسّط ومصر كما في أيّام المماليك. أخذ الهولنديون الموضوع خطوةً اضافية في القرن السابع عشر: بدلاً من مدّ خطوط تجارةٍ مع آسيا، قاموا باحتلال واستعمار الجزر التي تنتج التوابل، فأسّسوا لاحتكارٍ كامل، من المصدر الى منفذ البيع (فأصبح على تجّار البندقية، ان أرادوا الحصول على التوابل، أن يشتروها من امستردام). ولكنّ هذا النظام لم يكتمل حتى سيطر البريطانيون على الهند بشكلٍ كامل، في اوائل القرن التاسع عشر، وأخضعوا الصين بشكلٍ موازٍ. يبدأ المؤرّخ الاسكتلندي ويليام دارليمبل كتابه الأخير عن «شركة الهند الشرقية» بشرح أنّ أوّل كلمة هنديّة دخلت الى المعجم الانكليزي كانت الكلمة الهندوستانيّة العاميّة التي تفيد معنى النّهب (loot).

خياراتٌ فاتت
المشكلة اليوم مزدوجة: ماذا تفعل حين توصلك هذه المنظومة الى الخراب؟ هل تطلب الحلّ منها؟ وماذا تفعل حين لا تعود المنظومة ترغبك وتريد ضمّك، بل تطردك وتحاصرك؟ من جهةٍ، فإنّ معزوفة «الاقتصاد الحرّ» و«المصارف روح لبنان» وحكمة صندوق النّقد هي ما أوصلنا الى هنا. والنموذج اللبناني الذي يتهاوى على أهله ليس سوى الحالة الحديثة من «اندماج» لبنان في الرأسمالية التمويلية المتأخّرة. فلنضع جانباً الكلام الذي يعزي الأزمة في لبنان الى «الفساد والسرقة»، ويستسهل حلّها عبر «استعادة المال المنهوب» (وهو، حين يكون كلاماً عمومياً، لا تعود له قيمة ولا يكون الّا في صالح المرتكبين. في دولٍ شهدت احتجاجات فعلية ضد الفساد ونهب المال العام، البرازيل مثالاً، كان المواطنون محاطين بأخبارٍ تفصيلية يوميّة عن هذه السرقات: من أخذ رشوة، كم تحوّل الى حسابه ومتى، من أهدى شقّة الى السياسي ومقابل ماذا، الخ)؛ بعيداً عن هذا، لست أفهم كيف كان يمكن - بأي قدرٍ من النزاهة والحكم الصالح - أن نتجنّب الافلاس ونحن نراكم قروضاً بفائدةٍ تقارب الـ15 في المئة؟ وكيف تموّل دولة تحتاج الى 60 ألف عسكري والف عقيد وجنرال؟ وكيف يخرج «اقتصاد انتاجي» وعملتك مربوطة بالدولار وانت لا تتحكم بها؟ لقد تمّ وضعنا على طريقٍ محتّمٌ في آخره الانهيار؛ اقتصادٌ منذورٌ للريع والاستدانة، وهذه الأمور كلها تمّ تقريرها وحسمها بعد سنوات قليلة على انتهاء الحرب الأهلية. سقوط لبنان ليس أمرًا مفاجئاً أو فريداً، وانت لست أوّل أو آخر بلدٍ يجد نفسه في هذا المكان. المفاجئ هو أن هذا النموذج قد استمرّ حتى الآن (والأمر الثاني، وانت البلد الصغير الهامشي الذي تريد اميركا اختراقه، هو أنّ أحداً لن يأتي لمساعدتك، ولا حتى على طريقة اليونان). وليس صحيحاً البتّة، كما يردّد بعض «الاصلاحيين» اليوم، أنّنا عشنا لسنواتٍ في استهلاكٍ غير محسوب، وطفرة اصطناعية وترف ولعبنا بالدولارات، وأنّنا نكفّر عن ذلك اليوم. سرديّة الحنين الى ما قبل الأزمة هي أسطورةٌ خطيرة، او هي تعني فئة قليلة من اللبنانيين؛ هذا النّموذج استنزف المجتمع لسنوات ودمّر التعليم والخدمات وولّد بؤساً أكثر من أي مرحلةٍ أخرى في التاريخ اللبناني، قبل أن يصل الى الانهيار، هو ببساطةٍ كان رديئاً وقاتلاً من أوّله لآخره.
بالمعنى «الداخلي»، انتهى الموضوع من وجهة نظري، وانقضى الأمر، قبل أشهرٍ من اليوم؛ حين تمّ تقديم خطّةٍ أولية لحصر الخسائر وشطبها من الحسابات الكبيرة ورساميل المصارف، وتمّ وضع «فيتو» عليها من اللحظة الأولى. قال أحد الزعماء وقتها إنّ خيار «قصّة الشعر» هذا يعني الحرب الأهليّة، فيما تكلّم آخر عن أموال المودعين وقدسيّتها بلغةٍ دينيّة. الخطّة لم تكن جذريّة أو اشتراكيّة، ولو عرضت الوضع اللبناني على أي شركة استشارات لقدّمت الحلّ نفسه اجمالاً: أرجع أموال صغار المودعين واحسم الخسائر من الحسابات الضخمة وأموال المصرف. بعد أن فهمنا أن هذا الاحتمال ليس مطروحاً، لم يعد للحكومة من دورٍ سوى «تصريف الأعمال»، وانتفت أي امكانية لتثبيت الوضع وانقاذ العملة الوطنيّة، واصبح لبنان محض ميدان انهيارٍ ومواجهة.
الملفت هو أنّ الضحيّة الفعليّة لهذا الموقف كان الطّبقة الوسطى اللبنانيّة، أكثر من هبطت به هذه الأزمة وأنزلت مقامه. الفقير كان فقيراً وسيزداد فقراً، ولكنه لا يملك أموالاً ومدّخرات في المصرف. من خسر هنا هم أصحاب الحسابات الصغيرة والمتوسّطة، من يمتلك خمسين الى ثلاثمئة ألف دولار في دفتره، ويعتبرها مصدر دخله وتأمينه وضمانةً لأسلوب حياته. اللبنانيون الذين يعملون في دبيّ ويودعون مدّخراتهم في لبنان. التّاجر الصغير الذي وضع «غلّة حياته» في المصرف ليتقاعد. هؤلاء كان يمكن أن يسترجعوا أموالهم - وبقيمتها الحقيقية - في وقتٍ ما، وقد تمّت التضحية بهم، وكانت تلك الحلقة الأهمّ في ما سيسمّى «تدمير الطبقة الوسطى اللبنانية» (في هذه الأثناء، تزعم أخبارٌ بأن مديري مصرفٍ لبناني قد دفعوا لزبائنهم وشركائهم في حكومة كردستان - من حسابٍ خارجيّ - ما يقارب المليار دولار كانت مودعة لديهم. هذا المال، إنّ صحّ التسريب، كان يكفي لارجاع ودائع عشرات الآلاف من العائلات، أو تمويل استيرادنا من المواد الأساسية لأشهر).
في الوقت ذاته، بدلاً من أن تولّد هذه الاختلالات حالة من التضامن بين اللبنانيين، وأن يتواضع بعض من كان يرى نفسه «فوق» ويعتبر أنّه أميز، ويفهم بأنّه لم يعد هناك من فارقٍ بينه وبين الفقير، وأنّنا كلّنا قد نضطرّ لأن نبدأ من الصّفر (أو تحته قليلاً)؛ ازداد الانغلاق على من يشبهنا، وتوالدت الأندية النخبويّة والخطاب الّذي، بدلاً من أن يتضامن مع الفقراء في لحظة جوعهم، يحمّلهم المسؤولية ويتمنّى لهم الأسوأ. حين لا تملك نظريّة حول العمل الشعبي تصبح نظرتك الى السياسة والأولويات تقتصر على ذاتك وطبقتك والشبكة التي من حولك، والتي تشبهك وتفكّر مثلك. وبدلاً من التواصل مع الفقراء تستحوذ على خطابهم (أصبحت هناك قاعدة في لبنان بأنّك على حقٍّ ليس عبر تقديم الحجّة، بل عبر رفع الصّوت وتلبّس خطاب القهر والمظلوميّة والمعاناة، بغض النظر عن موقعك الاجتماعي. أحد معارفي هو أكثر من يصرخ في العلن بلغة «سرقونا، نهبوا أعمارنا، قتلوا شبابنا، الخ»، كأنه يصيح من قاع المستنقع، وأنا أعرف أنّ أحداً لم «يسرق عمره» أو يحرمه من شيء. بل أنفقت عائلته عليه مالاً يكفي لتنشئة ثلاث عائلات في لبنان، من المهد الى التقاعد، وهو أنفق على المخدّرات ما يكفي لتأسيس عائلةٍ على الأقلّ).

حين تُفلسك المنظومة، ثمّ تطردك
هنا نعود الى النظام العالمي ودور اميركا. العقوبات والحصار ليسا عنصرين استثنائيين، بل أصبحا سلاحاً اعتياديّاً في هذه المرحلة من عمر الامبراطورية. الحصار والعزل الذي تفرضه أميركا على ايران وسوريا حاليّاً يفوقان الحصار الأممي الذي فُرض على العراق في التسعينيات، فهذه الآليات قد تطوّرت وجعلتها واشنطن أداةً للحرب المستمرّة (ولكنّ آليات المقاومة قد تغيّرت ايضاً، والعالم تغيّر عن التسعينيات، وهذا ما سنناقشه في مقالاتٍ قادمة). أمّا في بلدٍ هشٍّ يعتاش على تدفّق الدولار مثل لبنان، فإنّه لا يحتاج الى عقوبات، يكفي أن تقاطعه اميركا وحلفاؤها حتى يدخل دائرة الانهيار. المسألة ليست «خياراً» بين شرقٍ وغرب، المسألة هي أنّ «الغرب» قد أوصلك الى هنا، وهو لن ينتشلك. أميركا قد أعلنت الحرب وحزبها في لبنان اصطفّ في المتاريس خلف سفيرته. وإن كنت تعتمد على أنّنا سنستمرّ الى الأبد هكذا: بلدٌ فيه مقاومة وسلاح موجّه ضدّ اسرائيل، وأميركا «تتسامح» معك وتتركك في المنطقة الرّماديّة وتستثنيك، فنحن آسفون. لقد وقع المقدّر. ووصلنا - هنا ايضاً - الى نهاية الطّريق وعليك أن تختار.
نحن في عهد ترامب، واميركا لا مشكلة لديها في أن يجوع لبنان ويحترق (حلفاؤها قبل أعدائها) إن كان ذلك سيضعف المقاومة. وإن كان يخيفك ما تفعله اميركا بخصومها، ففكّر بما تفعله بحلفائها في بلادنا حين تحارب بهم وتضحّي بهم وتدفعهم الى الأتون، وتصريحات وليد جنبلاط - يقول العارفون - هي مؤشّرٌ دقيق عن شعور حلفاء الغرب تجاه راعيهم واطمئنانهم لما يحضّر لهم. في هونغ كونغ تكافىء واشنطن جماعتها عبر تهميش مدينتهم ومعاقبتها، وفي العراق تدفع الكاظمي لاصطدامٍ انتحاري مع المقاومة، وتخيّره بين التعاون أو الانسحاب من العراق (أوقفت اميركا، على ما يبدو، دعمها الفني لطائرات اف-16 العراقية). وفي لبنان، لن يكون الحال مختلفاً.
معزوفة «الاقتصاد الحرّ» و«المصارف روح لبنان» وحكمة صندوق النّقد هي ما أوصلنا الى هنا


لهذه الأسباب لا أفهم من يزعم أنّه «ضدّ السلطويّة» ولا يعتبر اميركا هدفه الأوّل اليوم. بالمعنى العميق للسلطويّة، لا أحد يفرض ارادته على شعوب العالم، ويقرّر مساراتهم ونمط معاشهم بل وقيمة عملتهم، من دون أن يملكوا أي صوتٍ في الأمر أو امكانيةٍ للتأثير على من يحكمهم. حتى في الدول الديمقراطية في هذا الحلف الغربي، معنى السياسة يصبح محدوداً حين تكون أمورٌ مثل السياسة الاقتصادية والخارجية والأمنيّة خارج النقاش وتحت هذا السّقف (يمكنك أن بالطبع أن تجيب «نحن ننتخب بحرّيّةٍ هؤلاء الناس، الذين بدورهم يختارون الخضوع للمنظومة الأميركية»، ولكن هذا مجرّد خداعٍ للنفس). حين تحاصرك اميركا وتحاول تجويعك، فإنّ «الشّرق» لن يعيد ترميم منظومة المصارف التي انهارت، ولكنّ ايران - مثلاً - قادرة على مدّك بالمازوت والمحروقات حتى لا تستسلم ولا تموت (المحروقات هي «الخطّ الأخير» الذي، اذا انقطع أو ارتفع سعره، يتوقّف كل شيء في لبنان).
ولكنّ هذا لن يصنع فارقاً في الوقت الحالي. لا أحد من بين النّخب (حتى تلك التي «مع المقاومة») سيفلت تلابيب صندوق النّقد طالما أنّه لا يزال يحلم بعودة النظام المالي القديم، أو ترميمه أو اصلاحه، وينظر الى السنوات التي مضت بحنينٍ على أنها كانت «أيّام عزّ». ومن لا يزال لديه أملُ في أن يسترجع حسابه في المصرف، ولا يزال يحلم بمستوى الاستهلاك الذي كانت تحظى به طبقته (وبفنجان القهوة في باريس). حين تبدأ الاحتياطات بالنفاد، ويتم تناتش ما تبقّى من دولارات في حساباتنا؛ عندها فقط، تحت ضغط الجوع والاضطرار، سنفهم أنّنا حقّاً تحت حصارٍ ونتعامل مع الأمر وفق ما نملك، وهم سينتحون جانباً ويعدّون خسائرهم على مهل.

خاتمة
عام 2005، مع بداية المواجهة الداخلية في لبنان وقبيل اغتيال الحريري، كان الموقف بالنسبة لي محسوماً كمعادلة منطقية بسيطة. القرار 1559 الذي كانت واشنطن تريد منّا تنفيذه ونزع سلاح المقاومة، «والّا»، يعني فعليّاً الحرب الأهلية. هؤلاء النّاس لن يتخلّوا عن سلاحهم ويهدموا مشروعهم ويضعوا أنفسهم تحت رحمة أعدائهم. وبين أن تواجه غضب اميركا وأن تواجه مقاومتك، فالخيار الأوّل، أن نقف معاً ونرفض الأمر الأميركي ونواجه الكلفة - مهما كانت - هو أضمن وأشرف. وإن وقف بعض اللبنانيين مع الأميركيين، وأوصلونا الى هذا المكان الذي أريد تجنّبه، فأنا سأقفّ ضدّهم وليكن ما يكون.

سقوط لبنان ليس أمرًا مفاجئاً أو فريداً. المفاجئ هو أن هذا النموذج استمرّ حتى الآن


الأزمة ستشتدّ، وهي داخلية وخارجية في آن، وعلى موقفك أن يربط بين الاثنين والّا فهو ليس موقفاً سياسياً. لا الحرمان الشعبي يلغي وجود الحرب الأميركيّة ولا الحرب الأميركية تغطّي على جوع النّاس. هنا بابا السياسة في لبنان اليوم، وجمهورها هو جموع اللبنانيين الذين لا يملكون امتيازات، ومدخولهم ليس بالدولار، ولم يلتفت اليهم أحد حين كانت الفوائد تتراكم في الحسابات الكبيرة، وهم لن يستمعوا اليوم الى نصيحة مترفٍ يعطيهم الأوامر ويخبرهم بأن العيب فيهم، بل الى من يخاطب جوعهم وقضيتهم (أنا لا أملك امتيازات حقيقيّة على باقي الشعب ولكن لي - كالعديد من اللبنانيين - أخٌ «مغترب ناجح» في الخارج، ولكنّه يعمل في النّفط، وحال قطاع النفط وشركاته اليوم لا تختلف كثيراً عن حال لبنان وماليته، وقد أكون خسرت بوليصة تأميني).
حين تشتدّ الأزمة وتصبح مواجهة، من الضّروري في هذه الأوقات الحرجة أن تفهم جيّداً ما هي خياراتك ومن هو عدوّك، ولا مكان للحلول الزائفة والتغيير الزائف والراديكالية الزائفة. البعض يعتقد أنّ المواجهة مع أميركا و«الاتجاه شرقاً» هي أوهام، فيما ما زالوا يصرّون على أنّ خطاب «كلّن يعني كلّن» سيوصل الى ثورة شعبيّة ونظام جديد. حسنٌ، حين يحاصرنا الجوع واميركا، حظّاً سعيداً في بناء منظومة جديدة عبر «كلّن يعني كلّن» ومشتقّاتها، أنا شخصيّاً سأقف مع المقاومة.