هذه المرة، اختار البطريرك بشارة الراعي عنوان «الحياد» ليعيد إلى بكركي بريقاً يبحث عنه منذ اختياره رأساً للكنيسة المارونية. يريد الراعي للتاريخ أن يذكره، أسوة بالبطريركين الياس الحويك وأنطوان عريضة. في عهد الأول أُعلنت دولة لبنان الكبير وفي عهد الثاني أعلن استقلال لبنان... على أن يكون الثالث، عهده، عهد إعلان الحياد. العنوان هنا تغطية لعبارة أكثر وضوحاً: «الحياد الإيجابي نحو الغرب». ليس الديمان بمنأى عن الصراع الحالي بين التوجه شرقاً أو غرباً، لا بل، في وقت امتنعت الأحزاب السياسية المتحالفة مع السفارة الأميركية عن النطق باسمها، «تبرّع» الراعي بنداء ينسجم مع ما تحاول الولايات المتحدة وسفارتها في لبنان إرساءه منذ سنوات. بين ليلة وضحاها، صار البطريرك مقصد تيار المستقبل والقوات والكتائب وبقايا ما كان يسمّى بقوى 14 آذار وسفير السعودية في لبنان. هي معادلة تسعد الطرفين: الراعي الباحث عن مجد يُعطى لعهده، وحلفاء أميركا الباحثين عمّن يتبنى معهم شعارات «تحرير الشرعية اللبنانية والانضمام إلى الشرعية الدولية» في وجه من يقيدها، أي حزب الله. يتناغم مطلبهم مع كلام الراعي بـ«رفض عبث أكثرية شعبية أو نيابية بالدستور والميثاق والقانون، وبنموذج لبنان الحضاري، وأن تعزله عن أشقّائه وأصدقائه مِن الدول والشعوب، وأن تنقله من وفرة إلى عوز، ومِن ازدهار إلى تراجع، مِن رُقيّ إلى تخلّف». سريعاً، تبنى الراعي الدعاية الأميركية الساعية إلى تحريض اللبنانيين ضد حزب الله عبر ربط الانهيار الاقتصادي وشح الدولارات وتبخر الودائع بخيارات سياسية مرتبطة بالانقسام في الإقليم. لا يتحمل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، المسؤول عن السياسة النقدية في البلد مسؤولية، ولو محدودة، عن الخسائر والديون والمليارات المهربة والدولارات المحتجزة. لذلك انتفض البطريرك قبيل أسابيع لحمايته عند طرح احتمال إقالته. فالمشكلة، في نظر الراعي، سياسية، ولا صلة بها بالسياسات النقدية والاقتصادية والمالية.
(هيثم الموسوي)

هكذا، دخل الراعي المعركة إلى جانب السفيرة الأميركية و«حزب المصرف». فالمعركة الرئيسية اليوم ليست سوى معركة توزيع الخسائر ومن يتحملها، المصارف أو الشعب؛ ومعركة آلية الخروج منها: إنتاج نظام اقتصادي جديد وإعادة هيكلة الدين الداخلي ورسملة المصارف، أو تحييد المصارف بالتزامن مع حصار أميركي غربي على لبنان بذريعة العقوبات على حزب الله وتحميله مسؤولية الإفلاس. ثمة ماكينة إعلامية - حزبية - دبلوماسية تعمل على تسويق الدعاية الأميركية، لزيادة الضغط الشعبي على حزب الله وتحوير الحقائق. حسم الراعي أمره مع الخيار الثاني، متجاهلاً أن الأزمة الاقتصادية تصيب دولاً التزمت «الحياد الأميركي»، والصلح مع إسرائيل، كمصر والأردن والبحرين، حيث لا سلاح ولا خلافات داخلية على الخيارات الاستراتيجية. الأمثلة في العالم كثيرة، من الأرجنتين إلى بورتو ريكو والإكوادور وصولاً إلى قبرص واليونان. بعضها مستعمرات أميركية وجميعها خاضعة لما يطيب للبعض تسميته بـ«الشرعية الدولية». رغم ذلك، لم تنقذ هذه الشرعية وهذا «الحياد» تلك البلاد من الانهيار الاقتصادي والنقدي والإفلاس.
يشير المقرّبون من البطريرك الراعي إلى أن «أساس «الحياد» هو حماية مسيحيي الشرق. فلبنان آخر موطئ قدم لهم، وانهياره يعني القضاء على وجود الطائفة ودفعها إلى الهجرة القسرية. والحياد نظرية عمرها أكثر من 80 عاماً، تبناها كل من بشارة الخوري ورياض الصلح، وصولاً إلى« إعلان بعبدا» في عهد الرئيس السابق للجمهورية ميشال سليمان. واليوم يطمح البطريرك، على ما قاله أول من أمس، لحياد منفتح يعيد لبنان «سويسرا الشرق». هو شعار ارتبط بقانون السرية المصرفية الذي تحوّل إلى أحد أبواب السرقة والتهرب الضريبي وإخفاء الثروات المنهوبة. يتابع الراعي: «بات لبنان منعزلاً عن كل العالم. لا يمكن أن نتغنّى بلبنان الرسالة والحوار من دون أن تكون لنا علاقة بأيّ دولة عربية أو غربية أو أميركية. وهويتنا الحياد الفاعل والإيجابي والبنّاء، وليس الحياد المحارب». إذاً، هنا لبّ المشكلة ولا شيء آخر، في رأي رأس الكنيسة المارونية. لا الانهيار الاقتصادي ولا الطائفية التي تمنع الإصلاح ولا الفساد المتغلغل في كل الإدارات والوزارات. ولا هو الحنين الى «سويسرا الشرق». مشكلة الراعي والمشروع الذي يحمله ويدعمه الأميركيون هي مع ما سماه «حياد محارب»، رغم أن كلمة حياد في غير مكانها هنا إذا كان المعني بهذا الكلام حزب الله. فالصراع اليوم بين مشروعين أحدهما الحياد الذي يخدم إسرائيل أي تحت عنوان السلام، وبين حركات التحرر اللاحيادية التي تنتزع حقوقها وتدافع عن قضاياها وتجبر العدو على التراجع بلا شروط. سمع الراعي كلاماً من هذا القبيل من سياسيين لا يوافقونه على نظرية «الحياد»، كالنائب السابق سليمان فرنجية الذي زاره أول من أمس. ويرى بعض من يعارضون «اكتشاف» الراعي الأخير أنه يحمل شعاراً بلا مضمون، أقنعه به «الكونت النمساوي المحايد» ميشال سليمان، والوزير السابق روجيه ديب، في استعادة لـ«إعلان بعبدا» الذي احترقت لوحته في القصر الجمهوري بعد انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016. وإلى النسخة الجديدة من «إعلان ميشال سليمان»، هرول مناصرو «الحياد» من تيار المستقبل والحزب الاشتراكي والقوات والكتائب ومستقلي ما كان يسمى بـ14 آذار.
دخل الراعي على خط دعم السفيرة الأميركية و«حزب المصرف»


حجُّ الاذاريين إلى الديمان تفسره مصادر مقرّبة من الراعي بأنه «تأييد للطرح اللبناني الجامع ولا يتعلق بالطائفة المسيحية بل يسعى إلى تبديد الانقسام بين اللبنانيين عبر منعهم من نقل صراعات الإقليم إلى الداخل. وأول من ينقذه هذا الطرح هو حزب الله. فالنموذج المطروح في مذكرة البطريرك لا يحمي جونية بل الجنوب. خصوصاً أن إعلان حياد لبنان يفترض أن يترافق مع اعتراف إسرائيلي به وإعادة الأراضي اللبنانية المحتلة». كيف ذلك؟ «الشرعية الدولية ستفرض على إسرائيل الانسحاب». «الشرعية» نفسها التي عجزت عن تحرير حي من قرية اسمها الغجر، رغم وجود قرار صادر عن مجلس الأمن بذلك! ذلك لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية بل «دعمها دبلوماسياً لا عسكرياً».
كرة تأييد طرح البطريرك تكبر، وفقاً للمصادر، خصوصاً بعد تأييد دار الفتوى والعديد من المسؤولين لها، لذلك يحمل الحياد ضمن مذكرة سيسلمها إلى الفاتيكان هذا الأسبوع، كون الكرسي الرسولي «هو الأصلح للتسويق لهذا الطلب». يريد الراعي «نظاماً دستورياً يعتمد الحياد أسوة بالنمسا والسويد وفنلندا، وينص على عدم الخوض في أي صراعات عسكرية وسياسية أو الانحياز إلى طرف أو صراع أو حرب. يقود ذلك إلى ضرورة تطبيق قول حزب الله بأن سلاحه دفاعي، بوضعه على طاولة النقاش جدياً لإعداد استراتيجية دفاعية». هنا مربط الفرس، في نظر مسوّقي «مبادرة» البطريرك. أما الانهيار الاقتصادي، «فحلّه سهل». «نعوضه»، وفقاً لما يهمسه البعض في أذن البطريرك، «بالمساعدات»، لا بنموذج اقتصادي جديد ولا باستعادة الأموال المنهوبة وتحرير ودائع الناس ولا بمحاسبة مهندسي الهدر والسرقات.