تنتمي الكرنتينا إلى المدوّر، وينتمي شارعا الجمّيزة ومار مخايل إلى منطقة الرميل. غير أنّ هذه المناطق التي تشكّل الحزام الأوّل لمحيط المرفأ، توحّدت في الفاجعة. بعد الانفجار الكبير تحوّلت كلها إلى مناطق وأحياء سكنيّة منكوبة غارقة في الركام. سقطت أسطح، تداعت بيوت، انفلش الزجاج في كلّ مكان، حجب الغبار الرؤية، واستقرّت الشظايا في الأجساد. حاولت الكرنتينا والجميزة ومار مخايل، أمس، لملمة فاجعتها. رفع السكان ما استطاعوا، بقيت جثث عالقة تحت الركام، لم تكتمل قائمة الضحايا، توزّع الجرحى والمشرّدون، فرغت الصيدليّات من موادها بعدما كانت مراكز إسعاف أوليّة، وأُفرغت مستشفيات من مرضاها.في الكرنتينا، المنطقة الأكثر فقراً في محيط المرفأ، حيث أشباه البيوت والشوارع المتروكة «على الله» وأهلها، حمل السكان جرحاهم بأنفسهم. فُقدت عائلة سوريّة نازحة، «امرأة وابنتاها سقط عليهن منزلهن، وراحوا». لم تصل فرق الإغاثة. يشير شاهد عيان إلى الجرحى بالإشارة إلى بيوتهم. جريح في هذه الطبقة، آخر على هذه الشرفة، معظمهم لم يدخلوا قوائم الإحصاء الرسميّة. وليد صاحب الدكان، أصيب في منزله بعدما سقطت النافذة عليه. لم يجد مستشفى يستقبله، «وصلتُ أخيراً إلى مستشفى المقاصد، لم يكن هناك مكان، كبّسوا جروحي بالمكبس وأنا واقفٌ، ولاحقاً نظّفتها في المنزل».
بين الهنغارات المحيطة بالمرفأ، في الكرنتينا، ثمّة منازل تكون عادة محجوبة عن الأنظار. يمكن التفتيش عنها بعد عبور الركام والأشجار المقتلعة وسط الطرقات. هنا ينتشل السكان أنفسهم، من دون رعاية رسميّة، مع عدد من متطوّعي المنطقة. قبل الانفجار كانت أشباه منازل، من طبقة واحدة، وبعده لم تعد صالحة للسكن. العائلات المستورة فيها، شاهدت بأمّ العين واقعة «هيروشيما» لبنان. «كنتُ هنا على المصطبة، سمعتُ الصوت أولاً، رأيتُ الدخان والنار، الله ينجّينا، ثمّ قذفني الهواء الساخن والغبار إلى داخل المنزل، طرت لجوّا وخُلع الباب، صرتُ ممدّدة بلا حيل، شاهدتُ زوجي ينزف ولم أستطع الوصول إليه»، لاحقاً «حملت ابنتي ومشينا فوق الزجاج وهرعنا نحو العسكر، تعثّرنا في الطريق»، هذه رواية أم إيلي التي تعمل في شركة تنظيف بالحدّ الأدنى للأجور، وتعيش مع زوجها وأولادها الثلاثة في منزل متواضع بين هنغارات تطلّ على المرفأ، فوقه طار «روف»، يشكّل منزل ابنها. «راح بيتنا، راح كلّ شي» تقول، وهي تجمع ما تبقّى من مؤونة مخزّنة في المطبخ. بينما تذرف دموعها، يصلها نبأ وفاة جديدة للعالقين بين الركام من جيرانها، فتعود للبكاء.
عند مدخل الجميزة لجهة وسط بيروت، سابَق العمال الأجانب أصحاب المصالح إلى كنس الركام والزجاج. انتشر الجيش منعاً لدخول من لا عمل له، فيما علقت سيارات الإسعاف في زحمة «لم تُفهم» أسبابها. تلقّى شارع غورو الضربة الأقسى. تساقطت أجزاء من البيوت الأثريّة. صارت مداخلها عبارة عن ركام. وقعت شرفة أحد تلك البيوت، «وأزهقت ثلاثة أرواح» وفق الستيني الساكن في المبنى المقابل. موظّفو المطاعم والمقاهي والمحال التجاريّة، رغم الرعب الذي عاشوه، والشظايا التي استقرّت في أجسادهم، عادوا لمعاينة أماكن عملهم. حرسوها وانتظروا أصحابها لإحصاء الخسائر. «الحمد لله زمطنا»، يقول أحدهم، «عرضيّة، بالنسبة إلى من فقدوا أحبّتهم».
في الكرنتينا ينتشل السكان أنفسهم من دون رعاية رسميّة، وما كانت أشباه منازل لم تعد صالحة للسكن


بعدما باتوا ليلتهم خارج منازلهم، عاد السكان، أمس، لتفقّدها. حملوا حقائب السفر، أفرغوا فيها ما استطاعوا جمعه من بيوتهم، وجرّوها خلفهم، إلى حيث سيبيتون إلى أجلٍ غير مسمّى. هذه ليست الحرب، لكنها مشاهد النزوح الخاصّة بها، واللبنانيّون صاروا معتادين تدبّر أمورهم في حالات كهذه. «صعدنا إلى منزلنا مع متطوّعين من الدفاع المدني. لم يعد هناك بيت. لا غرفتي ولا الصالون ولا شيء. كلّ ما كان لجهة المرفأ سقَط»، تقول الثلاثينيّة الساكنة في الطبقة الأخيرة في أحد مباني شارع غورو (الجمّيزة). والدها جريح، وخالتها المُقيمة في الكرنتينا تأذّى منزلها أيضاً. تتذكر الدم المتساقط من «عمّو جوزيف وباقي الجرحى، تجمّع الناس وسط الشارع خوفاً من انفجار آخر، ظنّوا أنه تسرّب للغاز، كانت الرائحة تُشير إلى ذلك»، والخوف الأكبر كان «من سقوط البيوت القديمة، كان يمكن أن تتساقط جميعها مثل أحجار الدومينو!».
«هذا زلزال!»، يختصر مختار منطقة الرميل، بشارة غلام، المشهد وهو يتفقّد البيوت «التي يفوق عمر الجديدة منها مئة سنة». بعد نحو 40 عاماً من «المخترة»، تخلّلتها معارك وحروب ودمار، فإن «ما شاهدته لا يُصدّق؛ الجرحى في الطرقات والأطفال، هذا زلزال»، يعدّد أسماء الضحايا ممّن سقطوا «نعرف خمسة في هذه المساحة الصغيرة، لا حصيلة نهائيّة، الجثث لا تزال عالقة تحت الركام». شقيقه الجريح «وصل إلى أحد مستشفيات زحلة، لم نعرف وين صار». في الصيفي، في محيط مبنى الكتائب، ينتظر موظّفو الأمن الخاص «اللا شيء» عند مداخل المباني والشركات المحيطة. يروون مشاهد الانفجار، ويصفون شدّة العصف الذي قذف بهم، وهم أقرب الشهود العيان الناجين إلى نقطة الانفجار. «عائلة من أربعة أشخاص قُذفت أجسادهم من السيارة على الأوتوستراد»، يروي رجل الأمن الخمسيني.
«أكثر من مئة وعشرين جريحاً»، حاول الصيدليّ بول صقر إسعافهم بشكل أوّلي، مع اثنين من العاملين معه، في صيدليّته في شارع الجمّيزة الرئيسي. «35 عاماً من الصيدلة، لم أختبر خلالها ما عاينته أمس، ولا خلال الحرب، شهدنا كارثة حقيقيّة!». الإصابات البالغة وجّهناها إلى المستشفيات، «في النهاية، نفدت لدينا كلّ مواد التعقيم والشاش والأربطة... لم يبقَ منها شيء». في الجهة المقابلة، كان العاملون في مستشفى راهبات الورديّة في الجمّيزة (مستشفى حداد) يفرغون ما تبقّى من أدوية ومعدات، بعدما توقّف المستشفى المتضرّر بعد الانفجار - الزلزال عن استقبال المصابين، وأرسلوا المرضى الذين كانوا نزلاءه إلى منازلهم.