رَسَمَ محقّقو الشرطة العسكرية وفرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي صورة أولية عمّا حصل عصر الرابع من آب في مرفأ بيروت، متسبّباً في التفجير الأضخم في تاريخ لبنان، والذي أودى بحياة أكثر من ١٥٠ شهيداً و٦ آلاف جريح وعشرات المفقودين. بات مرجّحاً أنّ الحريق تسببت فيه أعمال الحدادة التي كانت تنفّذها هيئة إدارة المرفأ استجابة لتقرير أمن الدولة. اشتعلت النار في «عنبر الكيماويات»، كما سمّاه المدير العام للجمارك بدري ضاهر، الذي تبيّن أنّه يعجّ بالمواد المتفجّرة والمشتعلة. لم يكن العنبر مجهّزاً بنظام إطفاء الحريق. وربما أسهم ذلك في عدم إخماد حريق صغير، يعتقد المحققون أنه تسبّب في انفجار كهربائي أضرم النار بشكل أكبر في العنبر المشتعلـ قبل أن يقع الانفجار الكبير بعد فتح باب العنبر. وبناءً على الإفادات الأولى لكل من المدير العام للجمارك الحالي بدري ضاهر والسابق شفيق مرعي، ورئيس اللجنة المؤقتة لإدارة واستثمار مرفأ بيروت، ومسؤولي العنابر، والحدادين الذين كانوا يقومون بسد الثغرات في العنبر قبل وقت قليل من اندلاع الحريق، فإنّ صورة المسؤوليات المباشرة باتت شبه مكتملة لدى المحققين. هناك مسؤولية مباشرة للجمارك وهيئة إدارة المرفأ بالدرجة الأولى. وإلى جانبهم، فإن التحقيقات مستمرة لتحديد مسؤولية كل من استخبارات الجيش وأمن الدولة والقضاء في هذا الملف.يمثُل اليوم أمام محقّقي الشرطة العسكرية ضباط وعناصر من الأجهزة الأمنية الثلاثة (استخبارات الجيش والأمن العام وأمن الدولة) للاستماع إلى روايتهم لما حصل بشأن تفجير المرفأ والمعطيات التي في حوزتهم عن السفينة المولدوفية التي كانت تحمل ٢٧٥٠ طنّاً من نيترات الأمونيوم وكيفية تعاملهم في هذا الملف. كذلك كشفت مصادر مطّلعة على التحقيقات أنّ القاضي غسان عويدات سيستمع إلى إفادات وزراء الأشغال السابقين. وعلمت «الأخبار» أنّ تحقيقاً فُتِح للاستماع إلى إفادة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا على خلفية الثغرات التي شابت تقرير أمن الدولة وكيفية تعامل الضباط والعناصر مع إشارة المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات، إذ يتبين لدى التدقيق في تقرير أمن الدولة أنّ عناصر مكتب الجهاز الأمني في المرفأ اكتشفوا قصة تخزين الأمونيوم في ٦ /١٢/ ٢٠١٩، لكنّهم انتظروا شهراً وثلاثة وعشرين يوماً لفتح تحقيق في قضية خطيرة بهذا الحجم! ففي ٢٩ /١/ ٢٠٢٠ أعطى اللواء صليبا أمراً بإجراء تحقيق بالتنسيق مع القضاء. ليس هذا فحسب. لقد انتظر الضباط في أمن الدولة نحو أربعة أشهر قبل إبلاغ القضاء بهذه القضية، إذ يظهر من خلال تقرير أمن الدولة أنّ المحضر فُتِح في ٢٨/ ٥ / ٢٠٢٠ ثم أُغلِق في الأول من حزيران، أي استمر أربعة أيام فقط. ورغم إشارة القاضي عويدات إلى محققي أمن الدولة بوضع حراسة على العنبر الرقم ١٢ الذي يحتوي نيترات الأمونيوم وطلبه تعيين رئيس للمستودع وطلبه معالجة الفجوة المفتوحة وصيانة الأبواب، لم يحصل ذلك إلا بعد ثلاثة أشهر. تركت هذه المواد في المستودع من دون إجراء فوري. ورغم خطورتها بحسب تقرير أمن الدولة، لم يُتابع ضباطه الإشراف على تنفيذ الإشارة بسد الفجوة وحراسة العنبر للحؤول دون سرقتها أو تفجيرها، كما حذّروا هم في تقريرهم.
يُضاف إلى ما سبق ثغرات شابت تقرير أمن الدولة، ولم يلتفت إليها محقّقو المديرية. لم يرد في تقريرهم كيف فُتحت الفجوة التي يبلغ قطرها ٥٠ سنتم بـ٥٠ سنتم. كما لم يُجروا تدقيقاً للتأكد إذا ما كانت الكمية لا تزال كما هي ولم تنقص. كذلك لم يأتوا على ذكر المواد الأخرى المخزنة في العنبر، على اعتبار أنّ التحقيقات بيّنت أنّ هذا العنبر يحوي مكونات قنبلة ضخمة. فقد كشفت إفادات الموقوفين وجود فتائل تفجير ومفرقعات نارية وبارود وبراميل مواد دهانات إلى جانب نيترات الأمونيوم! لكن ذُكر في تقرير أمن الدولة أنّ المرفقات هي: صورة عن باب ١٩ وصورة عن الفجوة وصورة عن الأكياس الكبيرة (عدد عشرة) التي يوجد في داخلها نيترات الأمنيوم.

لماذا احتُجزت السفينة؟
وصلت السفينة المحمّلة بأطنان نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت في أواخر عام ٢٠١٣. ورغم أنّ تقرير أمن الدولة يفيد بأنّ السفينة تعطّلت أثناء إخراج جرافتين زراعيتين بعد تسببهما في كسر عنبرها وتعطُّلها بشكل يحول دون إبحارها من جديد، غير أنّ التدقيق يُبيّن أنّ سبب احتجاز السفينة المباشر مرتبط بطلب حجز تنفيذي تقدم به المحامي جان بارودي بوكالته عن مدّعين أمام دائرة تنفيذ بيروت يوم ٢٠ / ١٢ / ٢٠١٣ بموجب مبلغ ١٥٠ ألف دولار لهم في ذمة مالك الباخرة. وعلمت «الأخبار» أنّه حُجز عليها من قبل جهاز أمن الرقابة في وزارة الأشغال يوم كان غازي العريضي وزيراً. كذلك عاود المحامي بارودي في ٢٦ / ١٢ / ٢٠١٣ التقدم بطلب حجز جديد على الباخرة مقابل مبلغ ١٣٠ ألف دولار لوكلائه في ذمة مالك السفينة. كذلك تقدم بارودي بطلب حجز ثالث ورابع من شركة دنماركية وشركة قبرصية لطلب مبلغ ٢٣ ألف يورو لوكلائه في ذمة مالك السفينة. وبحسب المصادر، فإنّ المبلغ كان كبيراً على مالك السفينة الذي قرر عدم الدفع والتخلّي عن طاقم السفينة.
وفي شهر أيار من العام 2014، تقدّم المدير العام لوزارة النقل والأشغال العامة عبد الحفيظ القيسي بطلب لتعويم الباخرة أمام قضاء العجلة. جرى ذلك في عهد الوزير السابق غازي زعيتر، إلا أنّ مصادر الأخير تؤكد أن القيسي لم يُرسل أي رسالة يُبلغ فيها الوزير، مشيرة إلى أنّ القيسي خاطب هيئة القضايا من دون مراجعة الوزير.
لم يُتابع ضباط أمن الدولة الإشراف على تنفيذ إشارة القضاء بسد الفجوة وحراسة العنبر


أما في ما يتعلّق بعلاقة ابن وزير الأشغال السابق غازي زعيتر، فذكر محمد زعيتر لـ«الأخبار» أنّه تخرّج من الجامعة عام ٢٠١٢ قبل أن يلتحق بمكتب المحاماة العائد لكميل بارودي للتدرج عنده، علماً بأنّ الأخير متخصص في الأمن البحري حيث لديه وكالات لشركات تأمين النقل البحري ولوكلاء بحريين. وذكر زعيتر أنّه عندما وصلت السفينة كان قد مرّ بضعة أيام على تدرّجه في هذا المكتب، علماً بأنّ والده لم يكن حينها وزيراً للأشغال.
في هذه الأثناء، وتحديداً في شهر أيار عام ٢٠١٤ وصل إلى مكتب بارودي للمحاماة كتاب من منظمة حقوقية تبلغه أنّ هناك طاقماً محتجزاً على السفينة روسوس منذ ستة أشهر، طالبة منه النظر إنسانياً في ظروفهم لكونهم لا علاقة لهم بمالك السفينة، علماً بأنّهم بقَوا محتجزين على متن السفينة طوال الأشهر الستة. بناءً على هذا الكتاب، قرر بارودي في ٢٠ نيسان عام ٢٠١٤ التوكّل عنهم، وقدّم طلباً إلى قضاء العجلة في شهر حزيران يطلب فيه تركهم ليخرجوا من لبنان. مرّ شهران قبل أن يوافق قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد المعلوف على تركهم في شهر آب عام ٢٠١٤.
وفي تاريخ ٧ /٤ / ٢٠١٤، تقدم بارودي بكتب إلى مديرية الجمارك وهيئة إدارة المرفأ يحذّر فيها من خطورة هذه البضائع بعنوان: «اتخاذ تدابير مستعجلة»، حيث استعرض الكوارث التي تسببت فيها نيترات الأمونيوم في العالم. ورداً على كتب بارودي، ردّ عبد الحفيظ القيسي بكتاب يفيد فيه بأنّه أرسل كتابين إلى وزارة العدل يطلب فيهما منها استعجال القضاء لبيع المواد المحتجزة في المزاد العلني.



هل يُحال الملف على المجلس العدلي؟
يُشرف المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات على التحقيقات الجارية في تفجير مرفأ بيروت، إلا أنّ ضغوطاً تمارس لسحب الملف منه وإحالته على القضاء العسكري، على اعتبار أنّ الصلاحية منعقدة له. وبين إحالة الملف على القضاء العسكري أو إبقائه بيد القاضي عويدات، يحضر رأي ثالث يُطالب بإحالة جريمة تفجير المرفأ على المجلس العدلي على اعتباره جريمة مسّت الأمن القومي للبلاد. إزاء ذلك، تكشف مصادر قضائية عن عدم اختصاص القضاء العسكري بالنظر في تفجير مرفأ بيروت على اعتبار أنّ الاختصاص الأصيل للنائب العام التمييزي لكون المادة ١٦ من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنيط بالنائب العام التمييزي الصلاحية لجهة إلزام كل من النائب العام الاستئنافي والنائب العام المالي ومفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية والمدير العام لقوى الأمن الداخلي والمدير العام للأمن العام والمدير العام لأمن الدولة إبلاغ النائب العام التمييزي عن الجرائم الخطرة. وبالتالي، فإنه يعطي التوجيهات ويُلزم سائر الجهات بتوجيهاته. وعليه، لا يمكن قانوناً نقل التحقيق من النائب العام التمييزي إلى جهات أخرى تتبع له. كما أنّ صلاحية القضاء العسكري هي للجرائم المرتكبة خلافاً لتدابير حالة الطوارئ والجرائم المرتكبة خلالها. كما أنّ الأفعال في جريمة المرفأ لا تشمل جرم المادة ٧٢ من قانون الأسلحة والذخائر، إلا إذا اعتبر أنّ هناك من سرق هذه المواد أو استوردها أو قام ببيعها.