العُملة مُجرّد ورقة، قيمتها بالثقة التي تخلقها. الليرة اللبنانية، المربوطة بالدولار الأميركي، فقدت هذه «الميزة». مجموعة من العوامل، الداخلية والخارجية، الاقتصادية والسياسية، اتّحدت في الأشهر الماضية لتدفع بسعر صرف الدولار صعوداً. كاد السعر يُلامس عشرة آلاف ليرة لبنانية للدولار الواحد، من دون أن يتدخّل «صانعو السياسات» لوضع حدّ له. رغم ذلك، لم ينهَر الهيكل كما جرى منذ مجزرة الرابع من آب. انفجار ينطلق من العنبر الرقم 12 في مرفأ بيروت ليجرف أحياء في العاصمة. المعارضة السياسية لحكومة حسّان دياب تتلقّف اللحظة، لتُسعّر ضغوطها ضدّه، وضدّ المجلس النيابي. «المجتمع الدولي» يمتطي حصانه مُستعدّاً لـ«غزو» أرض محروقة جديدة، يفرض فيها شروطه السياسية ويغتنم منها ما تبقّى. مُتظاهرون يعودون إلى الشارع بعناوين متنوعة. دياب وجد نفسه في «بيت اليَك»، لا حلّ أمامه سوى الاستقالة، بعد أن بدأ الوزراء يتركونه الواحد تلو الآخر. غموض كلّي حول مصير «الدولة» والحُكم. النتيجة؟ انخفاض في سعر صرف الدولار حتى لامس أمس، عتبة الـ6700 ليرة مبيعاً في السوق السوداء، منخفضاً نحو 1500 ليرة في غضون أيام قليلة.
(مروان طحطح)

قبل أشهر، كان الوضع العام في البلد «أفضل» من الأيام العشرة الأخيرة، واستمر التلاعب بسعر الصرف في السوق السوداء. ومن المعلوم أنّه في وجود أزمة سياسية، وعدم استقرار في الحُكم، وديون سيادية مُرتفعة، ووباء عالمي، يتأثّر استقرار العُملة في أي بلد. فكيف شذّ لبنان، المحروم من السيادة النقدية، عن هذه «القاعدة»؟
سعر الصرف يُشبه الأسهم والعقارات والذهب، «يتمّ تحديده بناءً على التوقعات»، يقول الخبير الاقتصادي، شربل قرداحي. أسباب عديدة تُفرد على الطاولة لمعرفة «سرّ» انخفاض سعر الصرف. الأول، هو الانفجار في المرفأ. ففي البداية، «جميعنا ظنّ أنّ المرفأ بكامله قد تدمّر، يعني أنّنا لن نكون قادرين على الاستيراد». التُجّار المُحتاجون إلى الدولار لتأمين استيرادهم، «خفّ طلبهم على العملة الخضراء». السبب الثاني يرتبط بزيارة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وترافق زيارته مع «توقعات بتحريك قروض مؤتمر سيدر وقرض من صندوق النقد الدولي، ما يعني دخول العملة الصعبة إلى لبنان»، يُضيف قرداحي، مُقدّماً السبب الثالث وله علاقة بالوضع الاقتصادي المُتردّي. فبعد سلسلة الهزّات التي أُجهد بها الاقتصاد اللبناني، والأزمات السياسية، وضرب شريانه التجاري الرئيسي، «يعني أنّه ضُرب الطلب الحقيقي على البضائع، ولم نعد قادرين على الاستيراد بالكميات السابقة نفسها»، ما يُخفّف الطلب على الورقة الخضراء بين الناس. ولكن بعد انفجار 4 آب، والنكبة الشاملة التي تسبّب فيها، أرسل عددٌ كبير من المُغتربين أموالاً إلى ذويهم، وأُرسلت مُساعدات مادية لجمعيات ومنظمات إغاثة، «زاد حجم الكتلة النقدية بالدولار المُتداولة بين المواطنين، ولم يعد هناك من نقص»، يقول قرداحي، مُنبّهاً إلى أنّ «خبراً سلبياً واحداً، كفيلٌ بإعادة رفع سعر الصرف».
سدّدت «أو أم تي» تحويلات للزبائن بقيمة 30 مليون دولار في 4 أيام


يوم أمس، راوح سعر الصرف على «المنصّات الالكترونية» وبين الصرّافين «غير الشرعيين»، بين 6500 ليرة و6900 ليرة لبنانية. لم ينعكس هذا الانخفاض على كلّ «السوق»، إذ استمر بعض أصحاب المهن الحرّة في فرض تسعيرة 7200 ليرة، مُعتبرينها «تسعيرة السوق اليوم». يقول المصرفي السابق دان قزّي إنّ سعر الصرف «تتحكّم فيه شائعات وكلام غروبات على الواتساب». بعد انفجار المرفأ، «اعتبر كُثر أنّنا سنتلقى كميات كبيرة من المساعدات، قسم منها يُغطّي خسائر الانفجار، والقسم الآخر يدعم استقرار الليرة». وعلى الرغم من أنّ العديد من المسؤولين السياسيين والماليين مُقتنعين بذلك، ولكن بالنسبة إلى قزّي «هذا غير صحيح، لأنّ مقابل كلّ دولار يدخل إلى البلد، هناك دولار سيخرج لتأمين استيراد السلع الأساسية من جهة، وتلك التي نحتاج إليها لإعادة الإعمار من جهة أخرى. سيُضاف ذلك إلى مشكلة العجز في ميزان المدفوعات (الفارق بين الأموال التي تدخل وتلك التي تخرج من البلد) التي كنّا نُعاني منها، ما يعني المزيد من الخسائر، وإعادة ارتفاع سعر صرف الدولار في الأسابيع المُقبلة». لا يوافق أحد مديري المصارف قزّي الرأي، «لأنّ مصرف لبنان سيُقدّم تسهيلات لاستيراد الألومينيوم والزجاج اللازمين للتصليحات، وبالتالي يُزيل عبئاً عن فاتورة الاستيراد»، مُتوقعاً أيضاً أن «يستمر الانخفاض في سعر الصرف حتّى شهر على الأقل، بانتظار أن تظهر المؤشرات المالية والسياسية». يُضيف مدير المصرف إلى تسهيلات البنك المركزي، ثلاثة أسباب لانخفاض السعر، «أولاً، هدوء الصرّافين وعدم ممارستهم لعبة الابتزاز حالياً. ثانياً، نتلقى في المصارف الكثير من تحويلات بالدولارات الطازجة. ثالثاً، إعادة الدفع بالدولار عبر المؤسسات التي تتعاطى العمليات المالية والمصرفية بالوسائل الالكترونية («أو أم تي»، «ويسترن يونيون»، «كاش يونايتد»...)». لكن هنا أيضاً، تتحدّث مصادر معنية بسوق الصرافة عن أن «الصرافين يجمعون الدولارات حالياً، وربما سيسعون مستقبلاً إلى تحقيق ربح كبير فيها عبر زيادة سعر صرفها مجدداً».

ازداد حجم الكتلة النقدية المتداولة بالدولار ولم يعد هناك من نقص


في 6 آب، أصدر مصرف لبنان التعميم القاضي بالعودة إلى دفع التحويلات بالدولار، وفي 4 أيام «سدّدت شركة «أو أم تي» تحويلات للزبائن بقيمة 30 مليون دولار»، بحسب الشركة التي بدأت تطبيق التعميم في أول يوم بعد صدوره، «علماً بأنّه في الإجمال نحتاج إلى أسبوع لنتمكن من تأمين السيولة». الشركة دفعت من احتياطيها، بانتظار أن تتمّ عمليات المقاصة مع شركة «ويسترن يونيون» وتصل شحنة الدولارات يوم السبت، «لنُعاود الدفع بانتظام».
تدفّق المساعدات يعني حلّ أزمة النقص بالدولار؟ مُفيدٌ التذكير بكمّ الوعود الهائلة التي تلقاها لبنان عن «مساعدات» و«هبات» لم يُصرف منها شيء. وحتى الساعة، ما زال الحديث عن حُزم مساعدات مُجرّد وعود على تطبيق «زووم» لمحادثات الفيديو، أما ما أُرسل، فوجهته مُحدّدة. بحسب مصادر في مصرف لبنان «نحن مُقبلون على أزمة أكبر». ما يُنقل عن الحاكم رياض سلامة، أنّ الاحتياطي القابل للاستخدام لا يتعدّى 3 مليارات دولار، «وهو رقم يُردّده نفسه منذ أشهر». ويتحدّث سلامة عن أنّه «يُدفع شهرياً 700 مليون دولار من موجودات المصرف، لتأمين الاستيراد»، يُريد في الأسابيع المُقبلة «أن يُحاول خفض هذا الرقم. فالموجودات تُستنزف من دون أن تُرفد بشيء». وبحسب المصادر، «اقتربنا جدّياً من اللحظة التي ينبغي أن يُدق فيها ناقوس الخطر». لا يحول دون ذلك سوى تحويلات منتظمة بالدولارات الطازجة من الخارج.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا