مع كل كارثة صار بديهياً الاستعداد للتي تليها. قدر يعيشه سكان لبنان الذين لا يزالون يراهنون على سلطة أفقرتهم وأذلّتهم وقتلتهم وشرّدتهم. بالكاد بدأ الناس بتخطي جريمة 4 آب، حتى أنعش حريق 10 أيلول ذاكرة مآسيهم مجدداً. هلع وقلق من تكرار المأساة، لم تُبدّده التطمينات التي تأتي ممن سبق أن طمأن أن لا مواد خطرة في المرفأ.ما حصل يؤكد أن انفجار 4 آب الذي أدى إلى مقتل نحو 200 شخص وجرح الآلاف، لم يكن كافياً لتغيير النهج. لا القوى السياسية ولا القوى الأمنية ولا القضاء ولا الإدارة اتعظت. طريقة العمل هي نفسها والاستهتار بأرواح الناس هو نفسه. صار جلياً أن الإهمال والفساد الذي انفجر مرة قادر على الانفجار ألف مرة، ما دامت السلطة هي نفسها، إن كانت سياسية أو أمنية أو قضائية أو إدارية أو مالية أو نقدية، وما دامت التحقيقات في الانفجار تلتف على المسؤوليات السياسية. لم يعد ينفع تأليف لجان التحقيق أو تحميل المسؤولية لفلان أو علان. صار جلياً أن العطب بنيوي. وصار جلياً أن الترقيع يزيد من شدة الضرر. النظام كله معطّل، وكذلك المؤسسات. لا الصلاحيات واضحة، ولا المسؤوليات، ولا آليات اتخاذ القرار، ولا سبل التواصل بين المؤسسات. ثمة منظومة مهترئة تماماً، ولا مجال لإصلاحها. بحسب التجربة، ليس أحدٌ في الجمهورية قادراً على التعهد بأن ما يحصل لن يتكرر. انفجار المرفأ نموذجاً. كل الاستنفار الذي تلاه لم يحل دون عودة النار إلى قلب المرفأ. وما لم يحصل تغيير جذري يعيد ترتيب السلطة، لا أحد يضمن أن لا تأكل النار كل شيء. للمرة الثانية في غضون أقل من 40 يوماً، ينجو الجزء الشرقي من المرفأ (محطة الحاويات) الذي يمر عبره أكثر من 70 في المئة من أعمال الاستيراد والتصدير. لكن الصدفة وحدها تنجيه، لا الإدارة والأمن ولا القضاء ولا السلطة السياسية.

للمرة الثانية في غضون أقل من 40 يوماً، تنجو محطة الحاويات، بالصدفة (هيثم الموسوي)

منذ ٤ آب، حوّل الجيش المرفأ إلى منطقة عسكرية، يمنع الدخول والخروج إلا بإذنه؛ إجراءات مشدّدة تسبق السماح بدخول أي كان، حتى لو كان مسؤولاً، ثم يتبين أن ورشة لحام تهدف إلى إجراء أعمال تصليح في منطقة السوق الحرة، قد انطلقت.
الجيش نفسه خرج، منذ نحو أسبوعين، على اللبنانيين ببيان ليؤكد أنه «خلال الفترة الممتدة ما بين 14 و22 آب تم الكشف على 25 مستوعباً يحتوي كل منها على مادة حمض الهيدريك. كما تم اكتشاف 54 مستوعباً تحتوي على مواد أخرى (لم يحددها)، قد يشكل تسربها من المستوعبات خطراً». طمأن الجيش حينها إلى أنه «تمت معالجة تلك المواد بوسائل علمية وطرق آمنة، وتجري متابعة هذه الأعمال بالتنسيق مع الإدارات المعنية العاملة ضمن المرفأ». أوحى الجيش في بيانه أن الأمور تحت السيطرة. وفي 10 أيلول تبيّن أنها لم تكن كذلك. فاجأ الحريق الجميع، خاصة أولئك الذين لم يكن انفجار 4 آب كافياً لهم ليدركوا خطورة تخزين مواد قابلة للاشتعال من دون عملية حفظ علمية وآمنة، ومن دون إجراءات بديهية تمنع تكرار المصيبة.
بشكل أدق، بدا الجيش الذي يعطيه قانون الطوارئ مسؤولية الحفاظ على الأمن في بيروت، عاجزاً عن السيطرة على كيلومترين مربعين في المرفأ. وهذا يتطلب أولاً إقالة الضباط المسؤولين، وقبل انتظار نتيجة التحقيق الذي كلف المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات الشرطة العسكرية ومخابرات الجيش والأجهزة الأمنية والجمارك والدفاع المدني وفوج إطفاء بيروت بإجرائه لمعرفة أسباب الحريق.
بحسب المعلومات التي اطلعت عليها «الأخبار»، فإن ورشة الحدادة الخاصة بـ أ. خ. اعتادت العمل في المرفأ بسبب تعاقد عدد من مستأجري الباحات في السوق الحرة معها. وقد دخل عمالها أمس للقيام بأعمال قصّ حديد وتلحيم بناءً على طلب ج. ح. الذي يستأجر باحة من إدارة المرفأ في منطقة السوق الحرة، حيث بنى عدداً من العنابر التي يؤجّر مساحات فيها للشركات. الهدف من ورشة الحديد، على ما تردد، كان إزالة العوارض الحديدية التي سقطت على البضائع من جرّاء انفجار المرفأ، تمهيداً لإخراجها. بدأت الأعمال بالاستعانة بمعدات تنتج شرارات نارية. وتبيّن أنها كانت تجري فوق براميل زيت ومئات الإطارات ومواد التجميل السريعة الاشتعال. كل تلك المواد الخطرة لم تسترع اهتمام أحد؛ لا من أعطى الإذن بالعمل ولا من حصل عليه. هكذا ببساطة، انطلقت الأعمال من دون الاتعاظ من كارثة المرفأ. فلا أزيحت المواد الخطرة ولا اتخذت إجراءات وقائية، كالاستعانة بمهندس للإشراف على الورشة أو الاستعانة بفوج الإطفاء لمواجهة أي حالة طارئة.
من شرارة اندلع حريق استمر لساعات طويلة، وأدى إلى تكون سحب سوداء في سماء في بيروت، كما أدى إلى هرب عدد كبير من القاطنين من المناطق المحيطة خوفاً من انفجار جديد. ومع إطفاء الحريق في ساعة متأخرة من ليل أمس، كان قد قضى على كل المواد الموجودة في العنابر الرقم 15 و16 و17، والتي تحتوي على بضائع بقيمة 4.4 ملايين دولار، وتشمل: إطارات السيارات، مواد التنظيف، مواد تجميل وعطور، مواد غذائية، مشروبات كحولية، آلات صناعية ومواد طبية، وأخرى كيميائية (هيدروكسيد الصوديوم) تستعمل في الصناعات الغذائية وفي صناعة الأدوية وأدوات التنظيف...
الجيش المسؤول عن الأمن في بيروت وفي المرفأ عجز عن ضمان أمن 2 كلم مربع


الحريق استدعى اجتماعاً طارئاً للمجلس الأعلى للدفاع، دعا إليه رئيس الجمهورية ميشال عون. وبعد كلمتين لكل من عون والرئيس حسان دياب، أكدا فيهما ضرورة الإسراع في كشف المسؤولين عن الحريق ومحاسبتهم، توالى الوزراء المعنيون وقادة الأجهزة العسكرية والأمنية على شرح واقع المرفأ، من دون التطرق بالتفصيل إلى ما جرى أمس، لكن مع الحديث عن الإجراءات الواجب اتخاذها لمنع تكراره، فضلاً عن تدابير مستقبلية وتعليمات عامة لتنظيم العمل في المرفأ في إطار المحافظة على السلامة العامة. كما طلب الى الأجهزة المعنية وإدارة المرفأ الكشف على محتويات العنابر والمستوعبات الموجودة في المرفأ حالياً والتدقيق فيها، للتأكد من طبيعة المواد الموجودة في داخلها ومدى خطورتها، خاصة بعد الشك في أن لا تكون البضائع الموجودة هي نفسها المحددة في المانفستو الجمركي.
وقد عرض رئيس المرفأ باسم القيسي تقريراً أشار فيه إلى أن الحريق اندلع في المنطقة الحرة في المرفأ على أرض مستأجرة من شركة bcc logistics. وكان عمال يقومون بصيانة للسقف وتلحيمه في أماكن عديدة، وتساقطت شرارات التلحيم على مستودعات فيها مواد غذائية وزيوت ودواليب ومواد تجميل سريعة الالتهاب. وأشار إلى أن الزيوت عائدة للصليب الاحمر الدولي واليونيفيل. وتبين أن الإهمال ناتج عن عدم اتخاذ صاحب المستودع الاحتياطات اللازمة، ولم يطلب الحصول على إذن بعملية التلحيم.
ونوقشت الإجراءات الواجب فرضها على المستودعات التي تحوي مواد خطرة، وأيضاً جرى نقاش مطول في الاجراءات الكفيلة بمنع أي حادثة خطرة مماثلة. واقتُرح إنشاء جهاز أمن مرافئ. كما تبين وجود 49 مستوعباً تحتوي على مواد قابلة للاشتعال ستجري اليوم معالجة وضعها مع أصحابها أو تلفها. أما المستوعبات غير الخطرة فسيطلب الى أصحابها تسلمها ومعالجة وضعها.
واقترح عون تأليف لجنة برئاسة الوزير ميشال نجار وعضوية ممثلين عن الاجهزة الامنية في المرفأ ومن إدارته من أجل وضع تنظيم جديد للعمل داخل المرفأ وتحديد المسؤوليات، أي وضع آلية تنظيمية. ومن ضمن المقترحات إنشاء جهاز أمن المرافئ.
من جهة أخرى، تم التطرق في اجتماع المجلس الأعلى للدفاع الى موضوع السجون. وأشار وزير الداخلية إلى أن نسبة الاكتظاظ هي 200 في المئة، وهناك خشية من تفشّي وباء كورونا، ما يهدد بكارثة اجتماعية، لكن حتى الآن لا إصابات. ومن الاقتراحات التي طرحت، إقامة مستشفى ميداني أو إضافة أجنحة أو تخصيص غرف في المستشفيات لهؤلاء.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا