إذا كانت قاعدة أن الأسباب نفسها تؤدّي إلى النتائج نفسها، فإنّ مصير أيّ رئيس مكلف ما بعد السفير مصطفى أديب - وقد فقد لقب «الرئيس» الذي لم يصدر بمرسوم - سينتهي الى المشكلة ذاتها: إذا رشّحه الرؤساء السابقون للحكومة وأملوا عليه شروط تأليف الحكومة ومواصفاتها ووزراءها، سيُواجه بالثنائي الشيعي الذي سيعاود طرح شروطه نفسها، إن لم تكن مزيدة في المرّة المقبلة. بذلك ينتقل تأليف الحكومة من المرجعين الدستوريين المباشرين الى فريق مستجدّ لا تنقصه التجربة هو الثنائي السنّي - الشيعي.منذ اتفاق الدوحة عام 2008 تسري هذه المعادلة. أرغمت الرئيس ميشال سليمان أولاً، ثم بات يواجهها الآن الرئيس ميشال عون. وهو مغزى ردّه في 23 أيلول، غداة موقف الرئيس سعد الحريري بالتخلّي عن حقيبة المالية، أن تأليف الحكومة يجري بالتشاور بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف تبعاً لأحكام الدستور. صواب كلام الرئيس لا يجعله بالضرورة نافذاً أو معمولاً به.
لأن اتفاق الطائف بات مدفوناً في كهف بحجر كبير، يبدو من الصعب الخوض في أي تكليف جديد، ومن ثمّ تأليف الحكومة، على نحو منفصل عن جملة الأعراف التي لا تزال سارية، أرساها اتفاق الدوحة على أنقاض اتفاق الطائف. الطارئ في الأعراف المستجدّة أنّ من المتعذّر توقّع تأليف حكومة جديدة في ضوء التجاذب السنّي - الشيعي غير الجديد، بيد أنه صار الآن أكثر احتداماً.

(هيثم الموسوي)

رفع الرؤساء السابقون السقف على نحو غير مألوف، بأن أعطوا لأنفسهم اختصاص ترشيح رئيس مكلف بات على الأكثرية النيابية التسليم به، وتحوّلهم من ثمّ إلى مرجعية التأليف وتسمية الوزراء وفرض المسوّدة على رئيس الجمهورية. تخلّيهم عن محاولة ترسيخ هذا العرف يُفقدهم دورهم والمرجعيّة التي يُراد أن تكون هي ممثّلة الزعامة والمؤسّسة السنّية، وليس الزعيم السنّي الأقوى أو الأول. منذ عام 2018، مع إبصار تجمّعهم الثلاثي النور (الرؤساء: نجيب ميقاتي، فؤاد السنيورة وتمام سلام) شكّلوا ظهيراً للحريري الذي صعد الآن في مركبتهم كي يتساوي معهم بما يوازي الربع، وليس الأول بالضرورة. ذهب الرئيس حسان دياب ضحية هذا الموقع عندما قاطعه الرؤساء السابقون تماماً، وساهموا في إبعاد دار الإفتاء عنه، مثلما ذهب الرئيس المكلف المعتذر أخيراً ضحيّتهم بإصرارهم على إظهاره دمية، لا يملك أن يقرّر ولا أن يتعهّد ولا أن يفعل، ما خلا أن يخرج.
على نحو مماثل، يملك الثنائي الشيعي ما يكفي كي يمنع تأليف أي حكومة لا يوافق عليها، سواء تمثّل فيها أو عزف. يُميّزه عن تيار المستقبل أنه - كثنائي - يقصر تمثيل الطائفة عليه وحده. لذا لم تحل مقاطعة التيار حكومة الرئيس نجيب ميقاتي عن ممارسة الحكم ثلاث سنوات (2011 - 2014). كذلك تأليف حكومة دياب التي لم تسقط بإرادة سنّية، بل من حلفائها بالذات، وتحديداً دعوة الرئيس نبيه برّي إياها إلى المثول أمام مجلس النواب. الأمر نفسه بالنسبة إلى وليد جنبلاط الذي يحدث أن لا يُوزَّر في حكومة كحكومة دياب، أو من قبل ينحني لموازين القوى فيشارك في حكومة ميقاتي عام 2011 المنبثقة من غالبية نيابية، رأس حربتها الثنائي الشيعي. أمسى الثنائي الشيعي الفريق الوحيد القادر على الحؤول دون تأليف حكومة لا يشارك فيها، مثلما هو قادر على توجيه مسار التأليف والمواصفات.
منذ اعتذار أديب في 26 أيلول، أضحى الخوض في تكليف أيّ خلف له يخضع لمقتضيات لعبة من طراز مختلف:
1 - لأن اللافت، مذ تنحّى، أن سارع الأفرقاء جميعاً إلى تأكيد تمسّكهم بالمبادرة الفرنسية، بدا خروج الرجل هامشياً غير ذي معنى، كأنه لم يكن الحدث. لم يتحدّث أحد عن المرحلة التالية، ولا عن ظروف فشله في تأليف الحكومة، وإن هي معلومة تماماً. لم يوحِ لأحد حتى أنه كان موجوداً. مؤدّى ذلك أنّ على أيّ رئيس مكلف لاحق الاتّعاظ من أنّ مهمّته ليست منوطة بصلاحياته الدستورية، بل الأخذ بموازين القوى على الأرض، وبناء خياراته عليها. في وسع الرؤساء السابقين تسميته مكلفاً، لكن ليس رئيساً لحكومة.
ليس سرّاً أن حكومات ما بعد اتفاق الدوحة كلّها، استقبلت الرئيس المكلّف في كل منها بأوسع تأييد، ووفّرت له الغالبية القانونيّة لتسميته، ثم تركته يواجه موازين القوى المشاركة إياه فعليّاً في تأليف الحكومات، حقائب ووزراء ونصاباً معطّلاً وحصة لرئيس الجمهورية. من دون اتفاق هذه، كان يستحيل عليه وضع مسوّدة يحملها إلى رئيس الجمهورية كي يوافق على ما وافقت عليه تلك الموازين. وقد يكون مغزى ما حدث مع أديب، أن الانتصار الذي اعتقد الرؤساء السابقون للحكومة أنّهم حقّقوه بفرض رئيس مكلّف على طريق فرض حكومة يسمّون هم وزراءها، ذهب هباءً بعدما اصطدم بالجدار الشيعي.
لا صلة لحقيبة الماليّة بميثاقيّة كرّستها الرئاسات الثلاث قبل 77 عاماً


2 - قد لا يكون مقنعاً لأحد حجّة الثنائي الشيعي في تمسّكه بحقيبة الماليّة على أنها تمثّل ميثاقية مشاركته في المراسيم الى جانب رئيس الجمهورية الماروني ورئيس مجلس الوزراء السنّي. وقد لا يكون الثنائي الشيعي نفسه مُصدِّقاً ومقتنعاً بجدّية حجّته هذه لتبرير المثالثة الميثاقية القائمة عرفاً بالفعل منذ 77 عاماً، عندما اكتملت بلا انقطاع وإن بُنيت تدريجاً: عام 1934 انتخب أول ماروني للرئاسة، عام 1937 أضحت رئاسة الحكومة للمرّة الأولى عند السنّة مع خير الدين الأحدب، منذ عام 1943 صارت رئاسة مجلس النواب في حصة الشيعة بعدما تقلّب عليها سنّة وأرثوذكس. مذذاك، دونما نصّ ووفقاً لعرف أضحى أقوى من النصّ، تكرّست ميثاقيّة المشاركة بين الرئاسات الثلاث. وهو مصدر مأخذ السنّة عامَي 1952 و1988 على تعيين ماروني رئيساً للحكومة إبّان شغور رئاسي، ومغزى أن لا تناط بنائب رئيس الحكومة الأرثوذكسي صلاحيات رئيسها السنّي كبيرها وصغيرها، ولا بنائب رئيس البرلمان الأرثوذكسي صلاحيات رئيسه في غيابه، وإن نصّ النظام الداخلي عليها ورقياً ليس إلا. ليس له أن يدخل إلى مكتبه في غيابه.
ما يدير لعبة النظام في الوقت الحاضر ليست الميثاقية التي لا يحتاج الثنائي فعلياً إليها، بل موازين القوى والاحتدام السنّي - الشيعي الذي يحمل طرفيه على تفادي الوصول الى الفتنة والاشتباك، فينتهيان الى التسويات الموقتة.
3 - لم تكن حقيبة المالية - ولن تكون مع أيّ رئيس مكلّف جديد إذا حضر - هدفاً في ذاته لطمأنة الثنائي الشيعي إلى دوره في المعادلة الداخلية. كذلك الأمر تسمية الوزراء الشيعة ليست الهدف في ذاته، بل مراعاة الأحجام السياسية على نحو يحقق التوازن في ما بين أدوارها. ليس خافياً أن الثنائي الشيعي يعرف أن وزير المالية لا يصنع الميثاقيّة التي تستمدّ موقعها من رئيس البرلمان بالذات، كقوة وازنة يتعذّر تجاوزها أو عرقلة دورها. هو وزير ليس إلا. لا يملك ولاية على سواه من زملائه كي يتقدّم عليهم، ويصبح توقيعه ملزماً في كل المراسيم. لذا، لا يوقّعها كلها بالضرورة.

احتدام التجاذب السنّي - الشيعي يجعل اكتشاف رئيس مكلّف جديد صعباً


لا بد من أنّ في جوارير الثنائي قراراً أصدره مجلس شورى الدولة في 16 كانون الأول 1991، رقمه 22، عن هيئة حاكمة ترأّسها رئيس المجلس القاضي جوزف شاوول، في دعوى رفعها القاضي منيف عويدات على وزارة المالية. قال القرار: «(...) بما أنّه لا يوجد أي نصّ في الدستور أو في القوانين والأنظمة الماليّة والإدارية يجعل من وزير المالية قيّماً ومراقباً على أعمال سائر الوزراء. ذلك أنّ المادة 64 القديمة من الدستور، أو المادة 66 في فقرتها الثانية من الدستور المعدّل عام 1990، جعلت من كل وزير القيّم على شؤون وزارته أسوة بسائر الدساتير المعمول بها في الأنظمة البرلمانية في كل بلدان العالم».
استند القرار الى اجتهاد العالم الدستوري جوليان لافيريير (Julien Laferriere) في كتابه عن القانون الدستوري (ص 1055): «في الحكومات البرلمانية الوزراء جميعاً - بما أنّهم متساوون في المسؤوليّة - متساوون دستورياً».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا