«ثورة 17 تشرين​ لا تزال قائمة لكن بأشكال مختلفة. الناس يتجمعون في الساحات لإرسال رسائل الى المسؤولين. لكن الشعب أيقن أن المسؤولين من دون إحساس. الكثير من المحتجين لا يريدون للثورة أخذ منحى عنفي، ورأوا أن البعض يستخدم القوة في مواجهة بعض المجموعات في بعض المناطق. لذلك، الناس خرجوا من الشارع. لكن الثورة الفعلية في قلوبهم وستستمر الى حين تحقيق المطلوب منها». ليس هذا خطاباً لأحد قادة الحراك، بل كلام رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، قبل ثلاثة أيام من الذكرى الاولى لـ«الثورة». تحدث جعجع بثقة القائد لهذه الانتفاضة، وأعطى نفسه براءة ذمة عدم الاستقالة من البرلمان... لأن التغيير غير مُجد في الشارع. واللافت أن أياً من المجموعات أو الأفراد لم يجد ضرورة للرد على من يحاول تسلق حراكهم والادعاء أنه جزء من هذه الانتفاضة. وهذا ما يحصل منذ اليوم الثاني لنزول الناس الى الشارع، عندما أعلن جعجع انضمام القواتيين الى «الثورة». يومها، واليوم أيضاً، لم تُسمع أصوات تنادي بمعاملة القوات كجزء من النظام الذي أوصل البلاد الى الانهيار، رغم هتافات متقطعة لبعض قوى اليسار حول تاريخ قائد الميليشيا السابق والإصرار على شمله بشعار «كلن يعني كلن». الشعار الذي بات هاجساً لجعجع دفعه الى الرد على عظة أحد الآباء في أوستراليا!حماسة المنتفضين في الشارع وتجاوب جزء كبير من المواطنين معهم بداية، حالا دون اعترافهم بوجود قواتيين في ما بينهم، بحسب أحد الناشطين، ذلك لأن «تحوير المشكلة كان ليقود الى الدخول في متاهة غربلة المنتفضين، فيما وجود حزبيين في الشارع ليس عائقاً أمام الحراك ما داموا يلتزمون بشعاراتنا». ورغم أن نشاط القوات لم يكن ملتبساً، سواء بقطع الطرقات في مناطق «وجودهم الطبيعي»، أم عبر سدّ نفق نهر الكلب بالباطون أو بالمشكلات التي وقعت بين الحزبيين والمنتفضين لدى ترداد شعارات تمسّ بجعجع... اختار الناشطون التلطي وراء هذه الأنشطة، والدفاع ضمناً عنها بدل فضحها، مدّعين أن قوى السلطة ترغب في تفشيل حركتهم عبر نظرية «المؤامرة» نفسها.
غض النظر عن النشاط القواتي أتاح للحزب سريعاً التموضع في المناطق التي يعتبرها مسؤولوه «آمنة» لهم، كفرن الشباك والأشرفية والزوق والدورة، وبدرجة أقل في جلّ الديب. كانت الإفادة متبادلة: من جهة ثبّتت معراب وجودها في جبل لبنان وبدأت خطة حماية «أمن» المنطقة والانتشار فيها، فيما استفاد الناشطون من التنظيم الحزبي للإبقاء على الحراك ناشطاً في هذه المناطق. تزامن الأمر مع استقالة القوات من حكومة الحريري في 19 تشرين الأول للتمركز بين المنتفضين، قاطعة الخيط الرفيع المتبقي بينهما بعد الدور الذي لعبه جعجع في اختطاف رئيس الحكومة في الرياض. قبيل ذلك، كانت التسوية الرئاسية مع التيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية ميشال عون تترنح، قبل أن تسقط كلياً. هكذا، خرج جعجع من دائرة الحكم بعدما وجد نفسه من دون مكتسبات تذكر مقارنة بالمكتسبات التي يمكن أن يجنيها على ظهر الحراك.
خرج جعجع من الحكومة لأن مكتسباتها لا تذكر مقارنة بالمكتسبات التي يمكن أن يجنيها على ظهر الحراك

وتمكن، بدرجة كبيرة، من نفض ترسبات سنوات مشاركته مع السلطة الحاكمة كقوة رئيسية في قوى 14 آذار ثم حليفاً رئيسياً للحريري ورئيس الحزب الاشتراكي وليد جنبلاط، مروراً بوثيقة إعلان النوايا مع التيار التي أوصلت الى التسوية الرئاسية. وكسب في مقابل الشارع، ثقة سعودية وإماراتية واهتماماً أميركياً لناحية قدرة جعجع على «تحقيق انتشار أمني في بعض المناطق، ربما كعامل ردع في وجه حزب الله، ولضمان أمن بلدات جبل لبنان، حيث ترى القوات أن بإمكانها التحكم في أوصال المنطقة».
اليوم، بعد مرور عام، باتت القوات أكثر من أي وقت مضى جزءاً أساسياً من الشارع، لا بل المحرّك له. لا يخلو الأمر بالطبع من أصوات تشمل جعجع ضمن «كلن يعني كلن». وبحسب المصادر، تعمل القوات على معالجة هذا الشق عبر التفاوض مع بعض المجموعات المعدّة للشعارات والفيديوات لعدم إقحامها فيها، رغم أن بعض أفراد المجموعات يتحدثون عن استحالة غسل ذنوب جعجع السياسية طوال العام المنصرم، سواء عبر الذهاب الى جلسة ثقة حكومة دياب أو الامتناع عن الاستقالة لحجج واهية أو التمسك بتحالفاته مع القوى السياسية كتيار المستقبل والاشتراكي. لكن هذا الاعتراض لم يترجم جدياً، وبقي يحكى به بتكتّم. وربما في ذلك اعتراف ضمني بأن الحراك موجّه ضد فئة من دون أخرى، وبالتحديد التيار الوطني الحر وحزب الله. هذا الاستهداف الممنهج لجزء من القوى السياسية، شكل فرصة لجعجع حتى يعوّم حزبه وينطلق في توسيع انتشاره، مستفيداً من إضعاف التيار. وما إصرار جعجع اليوم على انتخابات نيابية مبكرة سوى لاقتناص هذا الضعف العوني لقلب موازين القوى التي حققتها له الانتفاضة. فبرأي مصادر قريبة من القوات، استفاد الحزب من الحراك من ثلاثة جوانب:
1- اندفاع الانتفاضة السياسية ضد العهد والتركيز على طرف أساسي هو جبران باسيل ومن ورائه ميشال عون أضرّ بدرجة أولى بهما وليس بأي طرف آخر. من هذا المنطلق، فإن القوات استفادت من هذا الاستهداف، لأن تركيز المجموعات كان على «الأخصام». وبالتالي، جعجع مستفيد من الانتفاضة ما دامت موجّهة في وجه القابض على السلطة اليوم.
2- الوعي السياسي: قبل «الثورة»، كان هناك جزء من الرأي العام غير منخرط في العمل السياسي ومنكفئ طوعاً. هذه الشريحة التي تعتبر من الفئة الميسورة مادياً، رأت في الانهيار الحاصل مسّاً بطريقة عيشها ومكتسباتها، فخرجت عن صمتها. وفي اعتقاد المصادر أن هذه الفئة ستغيّر المعادلات السياسية في أي انتخابات مقبلة، بمجرد ذهابها الى الاقتراع ضد السلطة الحاكمة. وقد يكون للقوات حصة من هذه الأصوات، لأن «جوّ الثورة» غير محصور بطرف أو ائتلاف، بل يتوزع في مختلف الوجهات.
3- حملت الانتفاضة عنوان الانتخابات النيابية المبكرة، وذلك هدف استراتيجي للقوات لناحية إطاحة الأكثرية النيابية الحاكمة، اذ باستطاعة عشرة نواب قلب المشهد من ضفة الى أخرى، خصوصاً في المناطق المسيحية. وهذا التغيير بات شبه محسوم، وفق ما تشير اليه المصادر، وهو ما يقود الى الترجيح بأن القوات استفادت من الانتفاضة لعدم خسارتها أياً من جمهورها، وبسبب تبدل المزاج الانتخابي، أقلّه في جبل لبنان، من ناحية التصويت للتيار الوطني الحر.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا