صاحب النيافة في بلاد الضيافة يهذي، لكن قبل الدخول في ذلك، لنتعرّف إليه قليلاً أولاً. إلى جانب النيافة هو صاحب غبطة أيضاً. لا نعرف كيف استحوذ الأخ الفاضل أو الابن البار (فهو حتماً ليس بأبٍ إذ الزّهد عن الأبوة من متطلبات الوظيفة) على النيافة والغبطة. لكنّنا نعرف على الأقلّ أن مجد لبنان أُعطي له. يبقى السؤال هنا كيف أُعطي له؟ ولماذا أُعطي له دون غيره؟ ومن هو مجد أصلاً؟ ومن كان يخبئ مجد لبنان تحت وسادته؟ ولماذا قرّر التخلّص منه؟ هل كان يزعج نومه يا ترى؟أسئلة كثيرة لم يُجِب عنها سبت التّجلي، لكن يمكننا بدايةً تعريف بعض المصطلحات الخشبية، عفواً، الذهبية الواردة أعلاه وأخرى قد ترد لاحقاً: النيافة، الغبطة، المجد، عقارات الوقف، الإعفاء الضريبي، منصور لبكي.
الغِبطةُ هي الرضا التام الدائم بالنعمة وتمنّي المرء مثل ما للمغبوط من النعمة من غير أن يتمنَّى زوالها عنه. وواضحةً معالمُ الرضا التام كانت على صاحب الغبطة عندما أناف يوم السبت من شرفته على جوقة شتائم تصدح في ساحة الصرح. فالنيافة هي الرفعة، وبمجرّد أن تخاطب أحداً من طابقٍ عليٍّ تمتلك النيافة. يوجد مشهد في فيلم الديكتاتور العظيم لتشارلي تشابلن يشرح مفهوم النيافة، وذلك حين تتقابل شخصية هِنكل الهتلرية بشخصية نابولوني الموسولونية ويصرّان على انتزاع النيافة من بعضهما البعض من خلال التنافس على الجلوس في كرسي أعلى من كرسي الآخر، يُنصح بمشاهدته ومشاهد الفيلم الأخرى كافة، فعبقرية تشابلن الكوميدية لا مثيل لها. المجد هو النٌّبل والشّرف والمكارم المأثورة عن الآباء. إذاً قد يكون مجد لبنان موروثاً عن الآباء، وعقدة الآباء كانت حاضرة بقوة في بكركي السبت، وخاصةً عقدة «بيّ الكل». وليس مفهوم الإصرار على إيجاد أبٍ أرضيٍّ للجميع في حين أن الإيمان والصلوات اليومية تؤكّد وتوثّق أن «أبانا» موجودٌ في السماوات.
تعريف المصطلحات قد يوضح الصورة بعض الشيء، لكنّه لا يجيب عن التساؤلات التي قد تكون أجوبتها مكتوبة حصراً في صفر الحياة، عذراً، سفر الحياة، الصفر كان موضوع مقالة سابقة. هذه زلّة ثانية في أسطرٍ قليلة، لكن زلّات الإنسان تُغفر من الذات الإلهية التي لا يمكننا نحن البشر مساءلتها، لكن بالطبع يمكننا تقييم ونقد أداء الشركات أو المؤسسات المحتكرة لتمثيل تلك الذات والبشر الذين يديرونها. فلنبدأ بتقييم أداء بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للّبنانيين أجمعين في يوم السبت 27 شباط المفصلي، إذ تردّدت عبارة «ماقبل يوم السبت ليس كما بعده» قبل يوم السبت وبعده.
يسجّل لبكركي عشرة على عشرة، لا بل مئة على مئوية، في احترامها للتباعد الاجتماعي في ظل الجائحة. Chapeau bas. كما أنّ خطيب الحفل توخّى الوقاية بارتدائه قلادة «Air Doctor» الشهيرة التي تصدّ وتقنص الفيروسات واحداً واحداً في الهواء قبل اقترابها من الجيوب الأنفية حيث تعشّش مرضاً. أكثر من ذلك، تراصّ الحضور في دقيقة صمت وصلاة لضحايا الوباء اللعين. يا سيدة النجاة نجّينا.
محطّات تلفزة الاستعراض الثوري بايعت بشارة الراعي لينيناً لثورة أكتوبر اللبنانية المجيدة، والمراسلون نفسهم الذين لاحقوا بائعين متجوّلين لمحاولتهم كسب لقمة عيش لئلّا يقتلهم الجوع بدل الوباء، نقلوا ميكروفوناتهم إلى الكتف الآخر مهلّلين للحشود المتوافدة من «كل المناطق اللبنانية» للتبارك برذاذ الحناجر الهاتفة للحياد الإيجابي بعد تجربة النأي بالنفس السلبية طوال العقد الماضي من زمننا. مرّة أخرى، يا سيدة النجاة نجِّينا كلّنا.
هذا في الشكل، أما في المضمون كلمتان عفويّتان لا تمثّلان لا القوات اللبنانية ولا حزب الكتائب. الكلمة الأولى كانت لماري ملاك نهرا (تمّ تعريب الجزء الثاني من الاسم المركّب لأن لفظ الكاتب للصوائت الفرنسية الـ«voyelles» رديءٌ للغاية) التي تحدّثت باسم الشعب اللبناني «المستقل والمنتفض منذ سنة» ومنحت الراعي تفويضاً من هذا الشعب لـ«عقد مؤتمر دولي ينقذ كيان لبنان»، مع جرعة كبيرة من تبجيل بكركي التي لا تمزح ورشّة حقد على الغريب السوري والفلسطيني.
أما الكلمة الأخيرة فكانت هذيانَ كيانٍ بائد يحنّ إلى ماضٍ غابرٍ تختلط فيه الذكرى بالوهم والحلم. مسلّحاً بمجد لبنان وبتفويض من الشعب اللبناني الذي سوف يخوض البحر معه، طالب غبطته بعددٍ من الأمنيات التي يريدها من وراء البحار في مؤتمر دولي لإعلان حياد لبنان الإيجابي والناشط.
«نريد من المؤتمر الدولي أن يثبِّتَ الكيانَ اللبنانيَّ المعرَّض جديّاً للخطر».
تمام. ثوم وكبيس؟
«نريد من المؤتمر الدولي إعلانَ حيادِ لبنان فلا يعود ضحية الصراعات والحروب، وأرض الانقسامات، وبالتالي يتأسّس على قوّة التوازن، لا على موازين القوى التي تنذر دائماً بالحروب».
«الدولة هي الكيان الأسمى، ولأنها كذلك لا تتقبّلُ الدولةُ المحترمَةُ الالتباسَ والازدواجيّة والاستضعاف. فلا يوجد دولتان أو دولٌ على أرضٍ واحدة، ولا يوجدُ جيشان أو جيوشٌ في دولةٍ واحدة. ولا يوجدُ شعبان أو شعوبُ في وطنٍ واحد. إن أيَّ تلاعبٍ بهذه الثوابت يهدد وحدةَ الدولة».
جميل. بدأت تتّضح الصورة. الظاهر أن حياد لبنان لا يختلف الكثير عن مجده. قد نجهل من أعطى مجد لبنان له، لكننا نعرف أن حيادَ لبنان سوف يُعلَنُ له في مؤتمر دولي. رحلة حنين الراعي إلى الماضي رست في مؤتمر فرساي عام 1919، الذي أسّس لإنشاء الكيان اللبناني. حينها استقوت بكركي بدول الاستعمار المنتصر في الحرب العالمية الأولى التي منحتها كياناً طائفياً، لا دولة. فالدولة لا تتقبّل الاستقواء أيضاً. إن كان الكيان اللبناني مهدّداً بالخطر، أليس من الأجدى أن تعود بكركي إلى لبنان بدل استجداء حيادٍ خارجي؟ طبعاً ذلك لن يحصل لأنها لا تزال تعيش وهم أنها تختصر لبنان، بينما هي في الواقع لا تعدو كونها بطريركية لمعراب وثائر جل الديب تملك امتيازات غير مستحقة.
يوم السبت 27 شباط كان حقّاً استثنائياً في تاريخ لبنان، فالطقس الدافئ والجبال المثقَلة بثلوج الأسبوع الفائت بالإضافة إلى الطرقات الفارغة نسبياً كانت تسمح بالتزلج على الثلج والسباحة في البحر في نفس اليوم. أليس ذلك مجد لبنان؟ لكن سياسياً لم يتغيّر شيء، بانتظار فرج لبنان الذي لن يُعطى له.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا