طُليَ سور مبنى مكتبة صعب الطبية التابع لحرم الجامعة الأميركية المتمدّد هذا الأسبوع بجدارية تحت عنوان الجدّة والأم. وتجاور هذه الجدارية، والتي هي جزء من مبادرة حسن جوار الجامعة تجاه جيرانها بما أن الجار للجار كما يدّعي شعار صفحة المبادرة، جداريتان سابقتان، إحداهما تسّمى «حيط العطاء» وهي مرفقة بعلّاقات للملابس لتشجيع الناس على ترك ثيابهم القديمة ليقتنيها من أراد من المارة، والأخرى تشجّع على التنقّل بالدراجات الهوائية. المبادرتان فشلتا فشلاً ذريعاً لأنهما ببساطة استنساخ لتجارب أظهرت نجاحاً ترنديّاً (من trend) في مكانٍ ما على الشبكة العنكبوتية لا علاقة له بالجوار. وبالمناسبة هناك شبكات عنكبوتية عدّة تزيّن رفوف كتب على شارع جان دارك النموذجي تشهد على نجاح مبادرة تبادل كتب شبيهة بعلّاقات الحائط المعطاء.مرّ 25 عاماً على استنساخ الغنمة دوللي (وهي غير الكلبة موللي التي تؤنس الرفيق عامر محسن في عزلته)، والتي كانت أوّل تجربة ناجحة في استنساخ حيوان من الثديّات وعُدَّ ذلك تقدماً علمياً باهراً ومثيراً خاصة بالنسبة لما قد يعنيه للطبّ وأبحاث الخلايا الجذعية والتي قد تتوصّل إلى القضاء على الكثير من الأمراض المستعصية حتى يومنا هذا. عاشت دوللي لسنوات عديدة بين الغنم وأنجبت وماتت موتة ربّها، رغم ولادتها اللا دَنَسية. لكن لو كان لعلماء الـAUB استنساخ تجربة الاستنساخ هذه، وبناءً على تجارب الجامعة الاستنساخية المذكورة أعلاه، لكانوا رموا الغنمة في محيط هجين من الذئاب واستغربوا عدم نجاح التجربة.
لعلّ استنساخ الذوق وتعليبه كحرية استهلاك هو من أبرز نجاحات الرأسمالية المعولمة. فحتّى «مبادرات التغيير» تصبح سلعة استهلاكية، خالية من المبادرة والتغيير، مصفوفة على رفوف بعروض مغرية تماماً كبديل قهوة أجدادنا الصناعيّ السريع التحلّل الذي تنتجه شركة نستلة والمحلّى بمنتج آخر من الشركة نفسها. مغريات العرض تفوق قوّة الطلب في سوقنا التنموية «الحرّة»، فتصبح بويا الحيطان أولوية من رأس بيروت إلى أوزاعيها (أو «أوزفيل» كما حلا للبوياجية تسميتها)، من دون أن يلمحها حتّى من يمرّ بجنبها. إذا أردتم أن تقنعوا الشعب أن البويا تشكّل أولوية له، فعلى الأقلّ ابذلوا الجهد المطلوب لفهم الجوار وأذواقه وصيغوا الرسائل التي تلقى صدىً لديه. ونستذكر هنا إعلاناً أسطورياً على التلفزيون العربي السوري كان يهدف لبيع الـ«بويا كريم بوفالو لمّاع» حتى للقباقيب. لكن الكلام بلهجة الجوار بات عيباً اليوم بالنسبة لمن هم خلف أسوار الجامعة الأميركية، بفضل أسباب عدة، قد يكون أبرزها خسارة الجامعة للطبقة المتوسطة من طلابها والتي كانت آخر ما يربطها بالجوار.
في أوائل الألفية الثالثة كان لليسار العلماني أرضية لا بأس بها بين تلاميذ الطبقة الوسطى في هذا الصرح التعليمي الاستعماري، لكنها لم تكن إلا حالة معارضة للحريرية التي أخلت البلد من وظائف تناسب خرّيجي هذه الطبقة. بعدها، شتّتت مغريات سوق العمل المعولمة هذه الحالة، وهجر البيت من استطاع له خليجاً. فإن كانت مصالح يسار الجامعة الأميركية بعيدة عن الثورة في حينه، فليس من المستغرب أن يرى جيل طلاب اليوم، والذين جلّهم أصلاً هم ممن ترعرعوا وراء أسوار «كومباوندات» العمال الأجانب وفي مولات الجزيرة العربية، في طلاء الأسوار تغييراً.
بشكل عام، يروَّج للجامعات على أنها مصانع للفكر والنقد والبحث والتطوير وهي العوامل التي تنهض بالمجتمع. في الواقع وبحلتها الحالية في المرحلة التي نعيشها من الرأسمالية المتأخرة، بات حرم الجامعة عبارة عن خطّ إنتاج في ورشة صناعة «عزقات» (صوامل) وبراغي للماكينة الرأسمالية المعولمة، بينما تخدم «العريقة» من الجامعات كنوادي تعارف وتزاوج لـ«مانيفيلات» تلك الماكينة. فكما انتقلت الصحافة الاستقصائية إلى غرف الكتابة في هوليوود لأن سوق الأخبار السريعة قضت عليها، (هنا في بلادنا موجة انتقال الصحافيين تصبّ في كتابة بيانات ترويجية لأعمال المنظمات الدولية لأن الشغل أقل والدفع بالدولار)، انتقلت البحوث العلمية إلى مراكز البحث والتطوير في الشركات الخاصة، بغية مراكمة الأرباح. فمصلحة المستثمر تطغى على المصلحة العامة في اقتصاد السوق الحر، وتُترك الرقابة لأيادٍ خفية وتصحيحٍ ذاتي. وطال ذلك تجارة الدواء والشفاء العالمية، بل تفشّى فيها منذ زمن، وسباق لقاح الكوفيد الجاري دليل حيّ على ذلك.
طبعاً لا يمكن إلقاء اللوم كاملاً على من هم خلف أسوار المكتبة الطبية المطليّة حديثاً في هذه الحالة، لكن الـAUB تحبّ التباهي بأنها الرائدة والأعرق في نشر هذا الفكر التنويري بيننا. وتروى طرفة عن مؤسس الجامعة دانيال بلِس أنه أخبر رفاقه أنه متوجّه إلى الساحل السوري لإنشاء جامعتين إذ كان متأكِّداً أن اليسوعيين سيستنسخون تجربته البروتستانتية، فكان شيطان شارع هوفلان (لكن حديث اليوم ليس عن فقّاسة رؤسائنا). حبذا لو تمكنّا من تأكيد الخبرية من الكتب المكدّسة خلف السور، لكن الحكر النيوليبرالي لا يحبّذ تشارك الفكر. ولكن يمكننا أن نطّلع مجاناً على سجلات تبرعات رابطة دانيال بلِس حيث نجد بعضاً من الودائع التي أضاعها مصرفيونا.
وفي ظل غياب، أو التغييب الممنهج، للإبداع الفكري بين من احتكروا العلم وأهدروه، ينتشر خبرٌ الأسبوع الفائت يبشّر بتوّسع مطعم بربر الشهير خليجياً وافتتاح عشرات الفروع له بدءاً من دبي وصولاً إلى السعودية وقطر. لا شكّ أن فهلويَّ نسخٍ حائزاً على ماجستير إدارة أعمال من جامعة عريقة خرج بالفكرة هذه. هناك من يظن أن سبب نجاح بربر هو تتبيلة شاورماه أو جبلة فلافله، في حين يوجد من الشاورما والفلافل ما هو أطيب من بربر بأشواط وعلى بعد خطوات قليلة منه. تناول سندويش بربر في المول هو فعل مشين، لئلّا نقول بربريّ. هو استنساخ دوللي ورميها بين قطيع من ذئاب. لا داعي أن نشرح أن نجاح تجربة بربر ليس في المأكول بل في التجربة التي يعيشها الآكل في مكان وزمان الأكل وطبعاً في من يجاوره من آكلين آخرين، لكن هذا ما آلت إليه الأمور في مراحل نهايات اقتصاد السوق الحر. يراد منك أن تختار بحريتك الكاملة أن تأكل نفس الأكل حيث حللت وأن ترقص على نفس النغم وأن تقلّد أفضل الممارسات حتّى في «الثورات». فتوحيد الأذواق يوسّع الأسواق ويزيد الأرباح المركّزة أكثر فأكثر عند طبقة محتكرة وإن أوشك انفجارها (والذي لا يعني بالضرورة انتهاءها، لكن هذا حديث طويل).
لن تخرج حالة ثورية تطالب بتأميم جامعات النخبة الخاصة من داخل حرم الجامعات، لأن ذلك يتطلّب الاعتراف بأن معظم ما يلقّن فيها في مجالات الاقتصاد والسياسة والاجتماع على أنه علوم وفكر وانفتاح، هو غسيل للأدمغة وبيع للأوهام. فالبراغي و«العزقات» لا تفلت إلى أن تُمَلِّص وتبطل وظيفتها. وهذا قد يحدث قريباً بفضل فضلو والانهيار. إلى ذلك الحين، طَليُ الجدران هو أقصى المتوقّع. وقبل أن أُتّهمّ بالغيرة وضيقة العين، فأنا أيضاً خرّيج إحدى ورشات بيع «الحلم الأميركي»، لكن يوماً ما سنؤممها هي الأخرى، وهي الواقعة على الضفة المقابلة لهافانا. لا أذكر من أيام الجامعة إلا ابتسامات الأصدقاء وابتسامة سنيورية صفراء لإحدى أعضاء الكونغرس الأكثر يمينية وصهيونية، إليانا روس ليتينن، التي كنت أصادفها كل يوم حيث كنت أتسكّع. لكن اليوم، حتّى الابتسامات التي هي أروع التعابير الإنسانية، باتت هوليوودية وتستنسخ في طابعات ثلاثية الأبعاد في عيادات أطباء الأسنان. لذلك من الطبيعي ألّا يجد من يريد أن يذكر محاسن أيامه في الجامعة الأميركية أي شيء جامعٍ إلا ابتسامة المرحوم أبي ناجي الفريدة، والتي هي من الأشياء الحقيقية الصادقة القليلة التي اختبروها في شارع بلِس.



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا