فارق كبير بين تعليق البطريرك الماروني بشارة الراعي، من بعبدا في 25 نيسان الماضي، على الزيارات الخارجية لرئيس الحكومة المكلّف بأنها «تعني أن هناك متابعة واهتماماً بالملف اللبناني»، وبين ما أسرّ به أمام زواره أخيراً، وبينهم سفراء عرب وأوروبيون، بأن «من يريد تشكيل حكومة ما فيه يضلّ برا لبنان». وبون شاسع بين دعوة البطريرك الأطراف السياسية، في عظته في 22 آذار الماضي، إلى الكفّ عن وضع «شروط تعجيزية غايتها العرقلة»، وأن «الأولوية لتأليف الحكومة لا للتدقيق الجنائي»، وبين دعوته، في عظة الأحد الماضي، سعد الحريري إلى إرسال تشكيلة حكومية «محدّثة» إلى رئيس الجمهورية. وتغيّر واضح في اللهجة بين الفيديو الذي سُرّب للراعي، مطلع نيسان الماضي، يصف فيه الحريري بأنه «زعيم السنّة»، و«مرجعية أساسية لا يمكن التخلي عنها»، وبين حضّه الرئيس المكلّف على الاتفاق مع رئيس الجمهورية، وإلّا «فليتخذا الموقف الشجاع الذي يتيح عملية تأليف جديدة»، في إشارة مبطنة إلى عدم ممانعته الاستغناء عن الحريري إذا استمر تعذّر التأليف.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
ليس خافياً أن بكركي، منذ اندلاع أزمة التشكيل، كانت تميل دائماً إلى تحميل الرئيس ميشال عون وتياره السياسي القسط الأكبر من المسؤولية عن الاستعصاء الحكومي، بتأثير من «ملائكة» الحريري الحاضرين دوماً في بكركي، كالوزيرين السابقين سجعان قزي وغطاس خوري. ولفترة طويلة، بقي الراعي مقتنعاً بأن مطالبة رئيس الجمهورية وفريقه بالثلث المعطّل ووزارة الطاقة واستمرار المحاصصة وغيرها، هي ما يعرقل تشكيل الحكومة العتيدة.
«تكويعة» البطريرك بدأت، عملياً، عقب لقاء الحريري البابا فرنسيس في 22 نيسان الماضي. في اللقاء، أكد الحريري لمضيفه حرصه على المناصفة وحقوق المسيحيين، وأن المشكل يكمن في أن حليف عون، حزب الله، لا يرغب في تشكيل حكومة قبل اتضاح مآل المفاوضات الأميركية - الإيرانية، وأن رئيس الجمهورية وفريقه يغطّيان الحزب باختلاق ذرائع وحجج تؤخّر التأليف. وبعد اللقاء، ورّط الحريري الفاتيكان عندما أطلق، خارج المألوف بروتوكولياً، مواقف نارية ضد رئيس الجمهورية، ما أثار انزعاجاً شديداً في عاصمة الكثلكة.
قبل أن يعود الحريري إلى بيروت، وصلت رسالة ودّ من الفاتيكان إلى رئيس الجمهورية، واتصال إلى بكركي يطلب استيضاح أسباب المشكل الداخلي اللبناني، وإمكانية قيام البطريرك بمبادرة ما.
على الأثر، استضاف الراعي رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل على العشاء للاطّلاع منه، مباشرة، على أسباب العرقلة. أبرز الأخير للراعي سلسلة أوراق بتشكيلات غير مكتملة وبأسماء وزراء مجهولي المرجعيات السياسية قدّمها الحريري لرئيس الجمهورية، وعرض وجهة نظر التيار بأن الحكومة تحتاج إلى نيل ثقة الكتل النيابية، وسأل الراعي: هل يقبل الثنائي الشيعي ووليد جنبلاط بأن يسمي الحريري وزراء الشيعة والدروز؟ فأجابه بالنفي. وعندما سأل البطريرك عن الثلث المعطّل، أجابه باسيل بأن تقديم الحريري تشكيلة حكومية كاملة تتضمّن الحقائب وتوزيعها على المذاهب والأسماء ومرجعياتها السياسية، سيبيّن أنه في حكومة من 24 وزيراً، لن ينال فريق رئيس الجمهورية، مع الطاشناق والنائب طلال أرسلان، أكثر من ثمانية مقاعد. أما في ما يتعلق بالوزيرين المسيحيين الآخرين فيمكن التوصل إلى صيغة توافقية عليهما.
رفع الراعي إلى الفاتيكان أجواء العراقيل التي وضعها الحريري أمام مبادرته


اتفق الراعي مع باسيل على ترتيب موعد مع عون في بعبدا يحضره الأخير. عُقد اللقاء في 26 نيسان، وأبلغ خلاله البطريرك رئيس الجمهورية بأنه يقوم بمسعى سيرفع نتائجه إلى الفاتيكان. وطلب اقتراحاً بتشكيلة من 24 وزيراً للاستئناس، على أن يطلب من الحريري تشكيلة مماثلة. قبل زيارته لموسكو، في 29 نيسان، سلّم باسيل الراعي الورقة التي طلبها من عون. وبعد عودته، قدّم للبطريرك - بناءً على طلب الأخير «اقتراحاً أكثر مرونة» - ورقة ثانية تتضمن تخلي التيار عن وزارة الطاقة.
في غضون ذلك، كان البطريرك يعمل على «جبهة الحريري». أرسل الأخير إلى بكركي مستشاره غطاس خوري الذي سمع من الراعي طلباً باقتراح مكتوب شبيه لما طلبه من رئيس الجمهورية، فأسمعه الأخير الكلام المعتاد عن أسماء وحقائب وعن عراقيل يخترعها باسيل. إلا أن البطريرك أصرّ على الاقتراح المكتوب، فزار الحريري بكركي بعيداً من الإعلام، في نهاية الأسبوع التي سبقت عيد الفطر في 13 الجاري. في اللقاء، قال الحريري للراعي إن حزب الله لا يريد تشكيل حكومة. فسأله الأخير: «ما علاقة الحزب بالأمر؟ لا يبدو ظاهراً أن هناك مشكلاً مع الثنائي الشيعي. دعني أرَ أولاً أنك متّفق مع الرئيس. وأنا هنا أبذل مسعى بينك وبينه». وعرض عليه «ورقة عون»، طالباً منه إعداد ورقة مماثلة «حتى نعرف وين المشكلة». تم الاتفاق على أن يسلم الحريري الورقة قبل سفره في إجازة العيد، إلا أنه سافر من دون أن يفعل، ما أثار غضب البطريرك الذي امتنع عن معايدته، وإشكالاً بين قزي وخوري قال فيه الأول للثاني: «ما فيكن تكذبوا عبطرك الموارنة». استدعى الراعي غطاس خوري مستفسراً، فأكد الأخير أنه تعذّر إعداد الورقة قبل العطلة، وأن الحريري «راجع الأحد»... غير أن الأخير مدّد «إجازته» أسبوعاً آخر، مسقطاً مبادرة الراعي الذي عمد إلى رفع الأمر إلى دوائر الفاتيكان، وأيضاً إلى باريس التي تبلّغت انزعاج بكركي الشديد. وهو الانزعاج الذي عبّر عنه الراعي في عظة الأحد الماضي، عندما بدا أقرب من أي وقت مضى إلى مواقف رئيس الجمهورية. كما عبّر عنه أمام أكثر من سفير ووزير سابق زاروه أخيراً.