منذ أن تركت السلطة السياسية والتشريعية القرار المالي والنقدي والاقتصادي بيد رياض سلامة، باتت البلاد خاضعةً تماماً لاحتلال المصارف وأصحابها، بقيادة حاكم مصرف لبنان. بشطبة قلم، يمكنه تفجير المجتمع. وبشطبة قلم أخرى، يمكنه ابتزاز الدولة، بسياسييها وقضاتها، بعدما أخذ الناس، عموم الناس، رهينة له. كما قرار إقفال المصارف بدءاً من يوم 18 تشرين الاول 2019، المتّخذ حينذاك في واشنطن (هذه ليست نظرية المؤامرة، بل إن سلامة وممثلي أصحاب المصارف كانوا يومذاك في العاصمة الأميركية)، كذلك قرار أمس وقف دفع الودائع وفقاً لسعر المنصة (3900 ليرة للدولار الواحد)، المحدّد اعتباطياً، أو لأهداف لا يعرفها سوى سلامة وشركاه. [اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
ردّاً على قرار مجلس الشورى تجميد العمل بتعميم سلامة الخاص بصرف الودائع الدولارية وفق سعر 3900 ليرة - بما يفرض على المودعين اقتطاعاً من قيمة أموالهم بنسبة تتجاوز الثلثين - قرر حاكم المصرف المركزي إبلاغ المصارف الالتزام بقرار «الشورى». ما الذي فعلته البنوك؟ بالتأكيد، ستستمر في سرقة دولارات المودعين، عبر عدم تسديدها بالعملة الصعبة، كما عدم دفعها بالليرة وفقاً لسعر السوق. هي قررت إفراغ قرار الشورى من مضمونه. فهذا القرار يرى في تسعير الدولار بـ3900 ليرة إضراراً بالمودعين. وذلك يعني حُكماً أن تسعيره بأقل من 3900 ليرة يؤدي إلى إلحاق ضرر أكبر بأصحاب الدولارات المحتجزة في المصارف. لكن الأخيرة قررت العودة إلى سعر 1500 ليرة للدولار الواحد، كما لو أن في ذلك تحقيقاً لمقاصد قرار الشورى.
سريعاً، أتى ردّ الفعل في الشارع. تحركات لقطع الطرقات، دفعت برئاسة الجمهورية إلى التحرك، والتدخل بهدف العودة إلى تسديد أموال المودعين وفقاً لسعر 3900 ليرة للدولار الواحد. وبحسب مصادر بعبدا، سيُعلن اليوم عن اتفاق على مخالفة قرار «الشورى». باتت أحوال البلاد مزرية إلى حدّ أن أصحاب الدولارات المحجوزة في المصارف يطلبون الاستمرار في اقتطاع ثلثي قيمة ودائعهم (خدمةً لأصحاب البنوك وكبار المودعين)، لكونهم يدركون أن البديل هو العودة إلى سعر الـ1500 ليرة!
لبنان خاضع تماماً لاحتلال مصرفيّ، يقود قوّته الغاشمة رجل يدعى رياض سلامة


ما جرى في اليومين الماضيين إثبات عملي على خطورة الجريمة المتمادية المرتكبة بحق المودعين، كما بحق باقي السكان (من الضروري التذكير دوماً بأن المودعين ليسوا عموم اللبنانيين، وليسوا بطبيعة الحال كل السكان)، والمتمثلة في امتناع مجلس النواب عن إقرار قانون ينظم العلاقة بين المودعين والمصارف، سواء لجهة السحوبات أم التحويلات. قانون الـ«كابيتال كونترول» (القيود على رأس المال)، لم يبصر النور. لا حكومة حسان دياب أقرّت مشروعاً وأحالته على مجلس النواب، ولا قبلها حكومة الفرار من الانهيار التي كان يرأسها سعد الحريري فعلت ذلك، ولا مجلس النواب وجد نفسه معنياً بإصدار هذا القانون على مدى أكثر من سنة ونصف سنة. عن سابق تصوّر وتصميم، لم يصدر هذا القانون، رغم أنه إجراء احترازي طبيعي تتخذه أي دولة تعاني من أزمة مالية حادة، ولو كانت تقل حدتها عن تلك التي يمر بها لبنان حالياً. وبطبيعة الحال، فإن عدم إقرار القانون لم يكن بسبب ضيق وقت مجلس النواب العاطل من العمل، ولا بسبب استقالة حكومة الحريري ثم حكومة دياب. الامتناع عن اللجوء إلى الـ«كابيتال كونترول» كان بهدف الدفاع عن مصالح أصحاب المصارف وكبار المودعين، وإفساح المجال لهم لتنظيف جزء من ميزانيتهم، والسماح لمن يستطيع تهريب أمواله بأن ينقلها إلى مخابئ آمنة في شتى أصقاع العالم.
حتى إقرار ذلك القانون، من ضمن سلّة تشريعات تحدّ من سرعة الانهيار، وتؤسس للخروج من الأزمة، سيبقى لبنان بلداً خاضعاً تماماً لاحتلال مصرفيّ، يقود قوّته الغاشمة رجل يٌدعى رياض سلامة، برعاية قوى سياسية ودينية وأمنية وعسكرية وإعلامية...