تكاد لم تُعدَم وسيلة لاخراج تأليف الحكومة من مأزقها لم تُستخدم، من غير ان تجدي. لم يعد ثمة ما يُتوقع من هذا الاستحقاق كي يحصل، ولا احد قادر على التكهن بحصوله وبمَن؟ آخر موجاته احاديث الاعتذار المتكررة بلا طائل. قبل الزيارة الاخيرة لوزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان لبيروت في 6 ايار الفائت، قيل بايحاء جدي ان الرئيس المكلف سعد الحريري في صدد الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة، سرعان ما تراجع عنه اصحابه. الكلام نفسه استعيد بالنبرة ذاتها عشية اجتماع المجلس الاسلامي الشرعي في دار الافتاء في 12 حزيران، ثم قيل ان قرار الاعتذار لا يزال قائماً، لكنه مؤجل بضعة ايام. لا احد يتحدث عن سبل ازالة العراقيل من طريق التأليف، بل هل يستمر الحريري في تكليفه أم يتنحى، وقد بات الرجل صاحب القول لا المحيطون به؟طرح هذا التساؤل يفسح في المجال امام بضعة معطيات منها:
1 - باستثناء ثلاثة من المشاركين في اجتماع المجلس الاسلامي الشرعي، كل الحشد الحاضر رفض اعتذار الحريري، وأصر عليه تمسكه بمهمته، مع تأكيد الموقف المعلن في ما بعد في البيان الرسمي حيال التشبث بصلاحيات الرئيس المكلف وعدم مسّها. الحجة التي تسلّح بها الحاضرون رافضو الاعتذار، ان المشكلة التي يواجهها الحريري ليست ان رئيساً مكلفاً اخفق في تأليف حكومة، كما في حالات يمكن ان تحدث ويعتذر من جرائها، بل باتت بالنسبة الى السنّة مسألة مصيرية كيانية بكل ما للكلمة من معنى، واضحت ترتبط بمصير الطائفة كما بمصير البلاد ما دامت احد مكوّناته الاساسية. نادى اصحاب هذا الرأي بضرورة عدم التعامل مع ما يجري على انه فشل في تأليف حكومة ليس الا، ينتهي بدفع الرئيس المكلف الحالي الى الاعتذار والاتيان بسواه بغية التخلص منه، كأن الامر اجراء عادي عابر يسهل تجاوزه.
قادتهم هذه الحجة الى الاصرار على الحريري للاستمرار في مهمته ما دامت هذه في قلب مصير طائفته، الملتفة من حوله بدءاً بالمرجعية السنّية الدينية مروراً بالرؤساء السابقين للحكومة وانتهاء بالشارع الموالي للحريري. ما راح يقاربه السنّة من خلال اجتماع دار الافتاء، ان الرئيس المكلف يخوض معركة الدفاع عن صلاحيات دستورية تعود اليهم ويصير الى الاستيلاء عليها وعلى موقع الطائفة في المعادلة الوطنية.
تبعاً لهذا الموقف اتصل الحريري مساء يوم الاجتماع، السبت، بمفتي الجمهورية الشيخ عبداللطيف دريان، وأخطره بأنه علّق اعتذاره ولم يُلغه. ارجأه لبضعة ايام فقط لا تتجاوز ثلاثة ربما، فسحاً في المجال امام خيارات جديدة والمحاولة الاخيرة. احدى ذرائع الحريري انه لا يستطيع تجاهل الموقف السنّي العام الى جانبه، ولا تجاوزه.
2 - مع ان الحريري اعتاد التلويح بالاعتذار في مناسبة تلو اخرى، الا انه يعرف الآن ان مفتاح الاعتذار ليس عنده، بل في جيب مَن عدّه الحليف الوحيد الذي وقف الى جانبه باستمرار، وهو رئيس مجلس النواب نبيه برّي. اقرّ اولاً انه اضحى ظهيره الوحيد وآخر حلفائه، وقال عنه وعن نفسه انهما واحد، مع ان للعبارة طعماً اطيب مذاقاً لو ان برّي قال ما لم يقله وقد لا يقوله، وهو انه هو والحريري واحد. عبارة الرئيس المكلف تعكس شغفاً يشبه به والده الراحل رفيق الحريري، مع ان من النادر العثور في الابن على سرّ ابيه. هذا الشغف هو المبالغة والافراط فيها.
للمرة الاولى منذ اتفاق الطائف تضع الرياض فيتو على رئيس مكلف


لا احد ينسى المبالغات غير المرتوى منها عندما كان يتحدث الحريري الاب عن علاقاته الوطيدة ببرّي - والى حد بالرئيس الراحل الياس هراوي - في عقد التسعينات على وفرة خلافاتهما وتناحرهما واحتكامهما من ثم الى دمشق، وتعويله عليه في كل مشكلة في مجلس النواب كما في مجلس الوزراء. عندما كان الحريري الاب يغالي في مشاعر الود والتحالف، لم يكن خافياً انه كان يتكىء في الوقت نفسه على ظهيرين حديديين حميا دوره ووجوده في رئاسة الحكومة وفي المعادلة السياسية، هما السعودية وسوريا. لأن الحريري الخلف فقد هذين السندين وتفككت احلافه المنسوجة منذ عام 2005 مع وليد جنبلاط والقوات اللبنانية وحزب الكتائب، اضحى رئيس البرلمان ملاذه الوحيد. هو الذي منعه اولاً من التهديد باستقالة نواب كتلة المستقبل السنة الماضية، وهو الذي شجعه على الترشح لترؤس الحكومة، وهو الذي يوقفه اليوم على الركبتين الصلبتين. بذلك، وحده برّي يملك ان يقول للرئيس المكلف ان يبقى كما هو او ينصحه بالاعتذار.
المعلوم الآن ان رئيس المجلس ضد اعتذار الحريري. ليست المحاولة الاخيرة التي تحدث عنها الحريري امام المجلس الشرعي الاسلامي السبت، سوى ما ذكرته معلومات عن ان برّي طلب منه اعداد تشكيلة حكومية من 24 وزيراً مكتملة المواصفات، يضع فيها الاسماء التي يختارها على ان يسمي الوزيرين المسيحيين الاخيرين - المختلف عليهما مع رئيس الجمهورية ميشال عون - من بين الاسماء التي لا تُواجَه باعتراض او تحفّظ، على ان يعرضها على رئيس الجمهورية.
3 - قد لا يكون قليل الاهمية الانتباه الى سابقة، انها المرة الأولى منذ اتفاق الطائف - وهي احد صانعيه - تضع السعودية فيتو على مرشح لرئاسة الحكومة. لا تكتفي بإدارة الظهر له، ومنعه من زيارتها وهو حامل جنسيتها، بل تتصرّف على انها غير معنية بالرجل الذي وضعته في مقلب مناوىء لها. منذ عام 1992، مع وصول الحريري الاب الى السرايا، اضحت المملكة شريكاً فعلياً مع سوريا في دعم بقائه في منصبه واطلاق يده، ومده بمال لا قعر له لاطلاق مشروعيه السياسي والاقتصادي. ليس سراً ايضاً ان اختيار خلفه سعد لا الابن البكر للرئيس الراحل بهاء كان قراراً سعودياً. كذلك وصول الرئيس فؤاد السنيورة الى رئاسة الحكومة عام 2005. سخت الرياض على انتخابات 2009، بعد انتخابات 2005، من اجل وصول الرئيس المكلف الحالي الى السرايا للمرة الاولى. صالحته مع سوريا، ثم تركته يغرق في تحالفه مع حزب الله بعد 7 ايار 2008. كل ذلك بات من الماضي.
لم تضع الرياض فيتو على ترؤس الرئيس نجيب ميقاتي حكومة 2011، واختارت بنفسها الرئيس تمام سلام على رأس حكومة 2014، ولم تضع فيتو على ترؤس الرئيس حسان دياب حكومة 2020. لم تتدخل في تأليف حكومتي الحريري عامي 2016 و2019. اما الآن فالمسألة مختلفة تماماً. بعد الابواب المحكمة الايصاد، من غير ان تجهر، تتصرف الرياض على انها غير معنية بالاستحقاق الحكومي وبصاحبه سواء ألّف ام انتظر.
التفكير بعقاب كهذا لا يشبهه سوى حبل ملتف من حول عنق يختنق.