منذ بداية ظهور نتائج الانهيار، برزت الحاجة إلى وضع قانون يُقيّد حركة الأموال، وهو الخطوة الأساس حتى لا يخسر لبنان ما تبقى من دولارات، بهدف استخدامها لإعادة إطلاق عجلة الاقتصاد. مرّ أكثر من سنة و8 أشهر على سلوك الاقتصاد مساره الانحداري، وظّف خلالها «حزب المصرف» كلّ جهوده لمنع إقرار القانون، إلى أن تمكّنت لجنة المال والموازنة النيابية من إفراغ القانون من روحيّته وصاغته على قياس المصارف، فباتت مستعدّة لإقراره. انطلاقاً من هنا، يُقدّم كلّ من الوزير السابق والاقتصادي جورج قرم، ورئيس قسم الاقتصاد في الجامعة اللبنانية ــــ الأميركية عضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني غسّان ديبة، والمستشار الاقتصادي لرئيس القوات اللبنانية روي بدارو، مواقفهم من «الكابيتال كونترول»
جورج قرم: تغيير النموذج

(هيثم الموسوي)

أعتقد أنّ البحث بموضوع الضوابط على حركة رأس المال تأخّر كثيراً، وإقراره في بلدٍ مثل لبنان لن يؤمّن الغاية منه، وخاصة إذا لم يرتبط بمجموعةٍ من الإجراءات. ففي البدء يجب أن يكون لدينا مصرف مركزي قوي وعقلاني يُساعد على إخراج البلد من ورطته، وليس العكس كما هو الواقع حالياً، مع هكذا حاكم بنك مركزي (رياض سلامة). أما النقطة الثانية، فنذكرها بالاستناد إلى تجارب دول أقرّت «الكابيتال كونترول»، فنستنتج أنّ حظوظ ضبط حركة الأموال والسوق مُتدنية، والقانون قد يؤدي إلى إضعاف سعر صرف العملة المحلية. إمكانية استبدال الليرات بالدولارات الورقية، ستبقى موجودة، وهذه «البانك نوت» (الأوراق النقدية) ستُحوّل إلى الخارج. نذكر تجربة الجزائر التي عايشتها. كان البلد يُعاني من مديونية خارجية عالية، وفقد قدرته على تسديد الدفعات، ففُرضت قيود قاسية على حركة الأموال، من دون أن يمنع ذلك المقيمين وغير المقيمين من «التحالف» للالتفاف على القانون، والتمكّن من تبادل العملات، ما زاد من الضغوط على سعر صرف العملة المحلية. إذا كان هناك فرار لرأس المال من بلدٍ ما، فلا يُمكن إيقافه نهائياً. مع الإشارة إلى أنّني أوافق على أنّ ضبط الكتلة النقدية الأجنبية أساسي لإعادة إطلاق عجلة النموّ.
الإجراءات بحاجة إلى مصرف مركزي قويّ وعقلاني


ما الحلّ البديل إذاً لمعالجة الإشكالية؟
بوجود الموارد الطبيعية والإمكانيات، ينبغي أن نُحقّق الاكتفاء الذاتي الغذائي للسكّان، ثمّ ننطلق في رفع نسبة التصدير للحصول على العملة الصعبة، مُستفيدين من التراجع في قيمة العملة المحلية. بالتزامن، يجب التواصل مع كلّ الدول والاتحادات للطلب منها تعليق العمل بكلّ اتفاقيات التبادل التجاري التي عُقدت منذ أيام الحريري الأب (رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري)، نظراً إلى الظروف التي نمر بها. فهل من المعقول أن يكون استيرادنا مرتفعاً من الاتحاد الأوروبي، في حين أنّه يُرفض تصدير معظم السلع من لبنان؟ زيادة التصدير تعني خلق قطاعات إنتاجية جديدة، ما يعني الحاجة إلى منح القروض ليتمكن الناس من الاستثمار. القيام بذلك غير ممكن مع القطاع المصرفي الحالي: «بدّو كبّ كلّو سوا». يجب إعادة هيكلة القطاع المصرفي اللبناني، الذي بلغ حجمه 4 أضعاف الناتج الوطني. هذه ظاهرة شاذة. أما الجريمة الكُبرى، فقد وقعت مع دولرة الاقتصاد المحلي، وسماح الحاكم بمقاصّة محلية للشيكات بالدولار. من الضروري إنهاء هذه الدولرة. باختصار، يجب تغيير النموذج الاقتصادي ووضع نظام جديد ليكون هناك حلّ.

روي بدارو: لا يتعارض مع الاقتصاد الحرّ

هل يوجد تعارض بين النظام الاقتصادي الحرّ القائم على حرية التبادلات المالية وبين فرض ضوابط على حركة رأس المال؟ أبداً لا يوجد تعارض، ولكن لنعد أولاً إلى تعريف «الاقتصاد الحرّ»، بأن يكون مُحرّراً من كلّ شيء. وهذا ليس واقع الحال في لبنان. فالاقتصاد بوجود احتكارات ومراكز مُهيمنة في السوق، ينزع عنه صفة «الحرّ»، ويعني أنّ اقتصادنا «ذو أوجه مُتعدّدة»، حُرّ في الأسواق الصغيرة والمحال الفردية فقط. لو لم يكن هذا الاحتكار موجوداً، ولو كان سعر الصرف مرناً غير ثابت بالطريقة التي اعتُمد فيها منذ الـ1997، لما وصلنا إلى هذه الحالة. حالياً، وبعد أن طبّقنا سياسات خاطئة أدّت إلى إفشال منظومة جيّدة، بتنا مُرغمين على إقرار قانون لضبط حركة رؤوس الأموال. فـ«الكابتيال كونترول» يعني أنّه إذا كان لدينا عملات أجنبية نادرة، وبحاجةٍ إليها، يجب الحفاظ على هذه «الخميرة» وضبطها، لأنّها آخر ما تبقى لإعادة إطلاق عجلة الاقتصاد. حتى صندوق النقد الدولي يتحدّث عن إقرار قانون «الكابيتال كونترول»، بشرط أن يكون عادلاً وشفّافاً وجزءاً من برنامج كبير. أي إنّ قانون ضبط حركة الأموال يجب ألا يكون خطوة فردية، بل يترافق مع مجموعة من الخطوات، تبدأ من توحيد سعر الصرف بطريقة تُوازن بين مكونات الاقتصاد المحلّي: بين الطلب والعرض، بين المودع والمُقترض، بين الشرائح الاجتماعية المختلفة.
المشكلة هي أنّ «الكابيتال كونترول» مطلوب وضروري، ولكنّ المشروع المطروح حالياً في مجلس النواب ليس أفضل القوانين. التفاصيل غير واضحة، ما يعني غياب الشفافية. النقطة الثانية، هي بيد مَن سيكون تطبيق القانون؟ مصرف لبنان. هل يوجد شفافية في البنك المركزي؟ أصول الحوكمة غير سليمة، ما يعني أنّ أحداً لا يضمن عدم وجود استنسابية في السماح بتحويلات لجهات مُعينة، ومنعها على أفراد آخرين، وبالتالي إعادة خروج الرساميل.

غسّان ديبة: اعتراف بخسائر رأس المال

(هيثم الموسوي)

«الاقتصاد الحرّ» مفهوم خاطئ لأنّه اقتصاد رأسمالي يعتمد جزئياً وليس كلياً على حرية الأسواق. والبعض يظن أنّ حرية الأسواق مقدّسة، لكنها ليست كذلك في الاقتصادات الرأسمالية، وخصوصاً اليوم بعد انتهاء مرحلة النيوليبرالية. فالكلّ بدأ يتحدّث عن «تنظيم» الأسواق. مثلاً، اعتبر رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب أنّ أحد أعمدة مشروعه «إعادة إطلاق الرأسمالية» (The Great Reset) هو «إدارة الأسواق لتحقيق نتائج أكثر عدلاً». وبالتالي، الحديث عن أسواق حرّة خارج إدارة الدولة لها، أصبح حديثاً قديماً وخشبياً. في ما خصّ «الكابيتال كونترول» تحديداً، فحتى صندوق النقد الدولي أصبح مؤيداً له في بعض الأحيان، لأنّ حركة رؤوس الأموال ــــ دخولاً وخروجاً من بلدٍ ما ــــ قد يكون لها آثار سيئة على الاقتصاد. بوجود أزمة نقدية ــــ كحالة لبنان ــــ فإنّ القيود على حركة رؤوس الأموال تُصبح ضرورية لمنع استنزاف الاحتياطات الأجنبية. وهذا حصل في العديد من الدول كآيسلندا وقبرص وأوكرانيا.
أعتقد أنّ قانون «الكابيتال كونترول» تأخّر كثيراً في لبنان بعد أكثر من سنة ونصف سنة على بداية الأزمة. وعادةً ما تُقرّ القيود مع بداية الأزمة، وبشكلٍ سريع. والإجراءات تؤخذ لمنع تدهور سعر الصرف، ولحماية النظام المصرفي، وخصوصاً إذا كان مُقترضاً بالعملات الأجنبية، كما كان الوضع في آيسلندا ولبنان. اليوم، لم يعد لهذه الإجراءات التأثير الإيجابي المباشر، لكنّه يبقى ضرورياً للحدّ من موجات تدهور مستقبلية. والبحث بـ«الكابيتال كونترول» ينبغي أن يُجيب عن سؤال «لماذا نحن بحاجةٍ إليه؟ وما هو مداه الزمني المُتوقع؟». آيسلندا مثلاً أقرّت الإجراءات سنة 2008 وبدأت برفعها تدريجياً عام 2017. والأساس مواكبة الإجراءات بإعادة هيكلة الاقتصاد لناحية إنهاء حالة عدم التوازن في الحسابات الخارجية، وتطبيق سياسات صناعية لزيادة القدرة الإنتاجية المحلية وتوسيع التصدير.
يجب فرض القيود على الودائع الجديدة أيضاً


يقوم مجلس النواب حالياً ببحث الموضوع، وقد حدّد عدداً من الاستثناءات لتحويل الأموال، مثل حسابات الدولار الطازج. كلّ قانون أو إجراءات لتقييد حركة رؤوس الأموال لديها استثناءات. أتفهّم استثناء الودائع الجديدة وذلك لبعث الطمأنينة للذين يحولّون الآن الأموال من الخارج، ولكن أكثريتها تذهب إلى الاستهلاك الداخلي من قبل العائلات التي تتلقاها، وبالتالي لا خطورة على هروبها مباشرة مرة أخرى، والبعض يشتري أصولاً مثل العقارات التي انخفضت أسعارها وأصبحت جذابة للرأسمال الخارجي. وبالتالي يجب فرض القيود أيضاً على الودائع الجديدة، مع استثناءات أو سقوف، حتى لا تتحوّل بعد تركّزها إلى مصدر لهروب رؤوس الأموال في المستقبل. طبعاً الأمر دقيق، لكن لم نعد بحاجة إلى تدفق رؤوس الأموال من الخارج الباحثة عن فوائد عالية. ثمّ في حال عقد لبنان اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، و«الدول المانحة»، يجب الحرص على أن تُخصّص لتكوين احتياطات المصرف المركزي لتمويل الاستيراد والاحتياجات الوطنية وليس الخروج مجدداً.
في وضع لبنان الحالي، كلّ الإجراءات يجب أن تُتّخذ لحماية الاستقرار وإعادة إطلاق الاقتصاد. بالنسبة إلى التعميم 158 الذي أصدره مصرف لبنان (دفع 800 دولار نصفها بالدولار ونصفها بالليرة لمدة عام للحسابات بالعملات الأجنبية)، لا أعتقد أنّه التفاف بالمعنى الكامل للكلمة على مشروع مجلس النواب، بل جزء من حلّ للودائع الصغيرة بانتظار «الحلّ الكبير» الذي سيتطلب إجراءات قاسية لا يبدو أنّ «المركزي» والدولة قادران الآن على تطبيقه بسبب قوّة رأس المال، المُتأمل بالعودة إلى النموذج السابق المُنتهي. يجب ألا ننسى أنّ الأزمة أطاحت أيضاً جزءاً كبيراً من ثروة الرأسمال الريعي وأطاحت القطاع المصرفي. وقانون «الكابيتال كونترول» ما هو إلا جزٍء صغير من إعادة هيكلة المصارف وإصلاح الاقتصاد، مع ما يعنيه ذلك من اعتراف بخسائر رأس المال.