تمسّك برّي بموقفه هذا - وكاد أن يكون الحليف الوحيد للحريري - فيما الإشارات البديهية السلبية الأخرى تتوالى بلا توقف: منذ 25 تشرين الأول 2018 عندما شارك مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في منتدى الرياض، لم يزر الحريري المملكة، وكانت تلك المرة الأولى يقصدها بعد 11 شهراً على احتجازه هناك في 4 تشرين الثاني 2017. منذ أكثر من سنة ونصف سنة لم يزره السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، رغم زيارته أسلافه رؤساء الحكومات السابقين وشخصيات سنّية، ولا زاره هو حتى، بما في ذلك يوم التضامن مع المملكة على أثر المشكلة الديبلوماسية بين البلدين التي تسبّب بها الوزير السابق للخارجية شربل وهبه في 18 أيار، إذ تبلّغ يومذاك عدم الترحيب به تأكيداً للقطيعة المستمرة. لا يلاقي عائلته سوى في أبو ظبي أو باريس.
لم يكن رئيس البرلمان متيقّناً من دوام القطيعة تلك، أو لعله لم يُرِد أن يتيقّن منها، مراهناً على تحوّل ما في اللحظات الأخيرة. قد يكون تحرّك السفيرتين الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو نحو الرياض في 8 تموز، من ثم اللقاء الذي جمعهما بالبخاري في 12 تموز، بعث آمالاً في احتمال تجاوز عقبات تأليف الحكومة، وإزالة تحفظات المملكة وحملها على الخروج من دور المتفرج والمتحفظ إلى دور المتعاون الإيجابي. بيد أن شيئاً من هذا لم يحدث. كان برّي وراء إقناع الحريري بالتقدّم بتشكيلة حكومية جديدة تكسر قطيعته مع رئيس الجمهورية، فيما هما بالذات في قطيعة لا تقل حدة. بيد أن الرئيس المكلف الذي لا يتقن التكحيل، قاد مهمته إلى خاتمة الاعتذار.
إحدى السفيرتين: في التشكيلة 20 موظفاً وثلاثة متقاعدين وقلنا لعون والحريري: حكومة تكنوقراط لا تعني حكومة موظفين
دخول الثنائي الأميركي - الفرنسي مباشرة في معترك تأليف الحكومة، في ما عُدَّ استكمالاً للمبادرة الفرنسية، ثم تحوّله إلى ثلاثي بانضمام البخاري إليه، عكس دوراً جديداً للثلاثية الديبلوماسية، كواحدة من أدوات الضغط على الأفرقاء اللبنانيين للتوصّل إلى حل لمشكلاتهم قبل الانهيار الشامل. على أن ما نُقل عن إحدى سفيرتي الدولتين العظميين، على أثر اعتذار الحريري، أفصح عن معطيات مهمة لا تقتصر على ذلك الحدث فحسب، بل تُنبئ بما يمكن أن تؤول إليه الاستشارات النيابية الملزمة.
في ما نُقل عن إحدى السفيرتين:
1 - كنا نتوقّع اعتذار الحريري، لأننا تحققنا من أنه ورئيس الجمهورية لا يتبادلان نيّات إيجابية لتعاونهما، ولا يريدان هذا التعاون.
2 - في معزل عن هذا السبب الذي من شأنه أن يؤدي إلى الاعتذار، ثمة آخر لا يقل شأناً هو التشكيلة التي حملها الحريري إلى رئيس الجمهورية ورفضها. لو قَبِلَها، لم نكن نحن والمجتمع الدولي ليقبل بها. هل يُعقل في بلد موشك على الانهيار، مدمر الاقتصاد، مفلس، محاط بأزمات كجبال، يؤتى له بحكومة موظفين اعتادوا تلقي الأوامر وانتظار رواتبهم في نهاية الشهر؟ راجعنا التشكيلة التي كُشِف عنها، فعثرنا من بين المرشحين الـ24 كوزراء - عدا الحريري - على 20 موظفاً وثلاثة متقاعدين، بينهم أعمارهم تتجاوز 75 عاماً. هل سيكون في وسع هؤلاء، القيام بأكبر عملية إنقاذ اقتصادي واجتماعي ونقدي يمكن أن يشهدها بلد في العالم، لا نظير لما يعيشه الآن؟ حكومة تكنوقراط لا تعني حكومة موظفين. قلنا مراراً لعون والحريري إن لبنان لم يفرغ من طاقاته وقدراته القيادية المتمرسة للاستفادة منها، والتعويل عليها.
3 - عندما تحدّثنا إلى السعوديين في الرياض، سألونا عن الضمانات التي نحملها من السياسيين اللبنانيين حيال مباشرة إصلاح نظام بلدهم، فأجبنا أننا حصلنا عليها من الرئيس المكلف الذي قال لنا إنه سيجري إصلاحات قوية. عقب السعوديون: نحن قبلكم وُعِدنا بالضمانات ولم يصدقوا معنا، ولم يفعلوا شيئاً. شاركنا في مؤتمرات باريس 1 و2 و3 ومؤتمر سيدر وصولاً إلى مؤتمري روما 1 و2، وكنا محرّكاً رئيسياً فيها كلها. وعدنا اللبنانيون بأنهم سيجرون الإصلاحات، لكنهم لم يفعلوا، ولم يتخذوا أي إجراء أو مؤشر. نحن لم نترك لبنان ولم نهمله. ليعتذر الحريري أولاً، ثم نبدأ الحديث.
4 ـ بحسب ما ذكره السعوديون أمامنا، ليس لديهم اسم لخلافة الحريري في رئاسة الحكومة. قالوا: لا اسم عندنا ولن نعطي أي اسم. لدينا المواصفات المتعارف عليها في المجتمع الدولي، وهي ما نوافق عليه فحسب.