قبل أن يعرض سعد الحريري مسرحية الاعتذار بشكلها النهائي، كان أمام خيارين: أقدّم اعتذاري من دون مقدّمات أم أرسل «تشكيلة أخيرة» ثم أعتذر؟ رسا القرار على السيناريو الثاني، الذي أتى بلا حبكة وبإخراج سيئ: التشكيلة اليوم والاعتذار غداً، وأي أمر آخر مرفوض! لذلك، واجه سعي رئيس الجمهورية إلى تنغيص الحلقة التلفزيونية، من خلال الإيحاء بأن التشكيلة لا تزال قيد الدرس، بطلب موعد يراعي مهلة الـ ٢٤ ساعة، ويؤكد قراره عدم المشاركة في الحوار التلفزيوني الذي عرض بعنوان «من دون تكليف»، وهو رئيس مكلف. وهو ما حصل فعلاً.
(هيثم الموسوي)

أمر واحد كان يمكن أن يعدل قرار الحريري هو موافقة رئيس الجمهورية على التشكيلة كما هي. وعلى ما تؤكد مصادر موثوقة، فإن اليوم الذي سبق زيارة الحريري لبعبدا وتقديمه التشكيلة، لم يخل من طرح سؤال: «ماذا لو فعلها رئيس الجمهورية ووافق؟». ببساطة، وجهة النظر التي سوّقت لهذا الاحتمال، كانت تضع في حسبانها أنه إذا كان رئيس الجمهورية مدركاً أن الحريري صار يتعامل مع التكليف، وحتى مع رئاسة الحكومة في هذه المرحلة، كعبء لن يحمله، فليس أفضل من «تلبيسه» بدلة رئاسة الحكومة قبيل الانتخابات، وليتحمل عندها مسؤولية الأوضاع الصعبة التي يعيشها الناس والإجراءات القاسية المتوقع أن ترافق أي برنامج من صندوق النقد. لكن رغم أن الحريري كان واثقاً بأن عون «عنيد» ولن يفعلها، أراد، على قاعدة «عدم النوم بين القبور»، تصفير الاحتمالات وعدم ترك مجال لانقلاب قد ينفذه عون. ولذلك، لغّم توزيع المقاعد الذي تم تداوله في إطار مبادرة الرئيس نبيه بري، وخاصة في ما يتعلق بوزارة الداخلية. سحبها من حصة عون، واطمأن إلى أنه قضى على أي أمل في إصدار مراسيم التشكيلة.
خلافاً لما يتردد، تجزم شخصية مطلعة بأن المصريين لم يحثوا الحريري على عدم الاعتذار. ما حصل أنه طلب موعداً من الرئيس عبد الفتاح السيسي ليبلغه قراره الاعتذار مسبقاً احتراماً منه للدعم المصري الذي تلقاه، فحصل على الموعد في اليوم نفسه لزيارة بعبدا. في مصر، كانت الأولوية، ليس للحريري نفسه، بل لتأليف الحكومة وعدم الوصول إلى الفراغ. ولذلك، سُئل الحريري عن اليوم الذي يلي. هل يرشّح بديلاً؟ لم يتردد الحريري في التأكيد أمام المصريين أن نجيب ميقاتي هو مرشحه.
عودة الحريري من مصر إلى لبنان، أعلنت، عملياً، انطلاق خطة «اليوم التالي» حكومياً وانتخابياً. لكن حماسة الحريري لبدء حملته الانتخابية دعته إلى إعلان حصول الأردن على موافقة أميركية لتصدير الغاز المصري إلى لبنان بوصفه انتصاراً لجهوده الدبلوماسية لإخراج البلد من أزمته، والأهم لكي يقول إن قضاءه أغلب وقت التأليف خارج البلاد لم يكن مضيعة للوقت، بدليل اتفاق الغاز. لكن بحسب مصادر التقت المدير التنفيذي في صندوق النقد الدولي محمود محيي الدين، فإن الأخير قال للحريري ولغيره، عندما التقاهم، إنه سمع خلال زيارته الرسمية للأردن، قبيل وصوله إلى لبنان، كلاماً عن سعي مع الأميركيين للحصول على استثناء يسمح بإعادة تشغيل خط الغاز العربي، مشيراً إلى أن الأجواء إيجابية في هذا الصدد، لكن من دون أن يحسم الأمر. وما أكد ذلك كان الجواب الذي تلقّاه الحريري في مصر عند طرح مسألة الغاز. وبالرغم من إبلاغه حماسة مصر لتصدير الغاز إلى الأردن وسوريا ولبنان، لكن الجانب المصري بدا متفاجئاً من طرح الحريري لمسألة موافقة الأميركيين، فأوضحوا أنهم سيتأكدون بأنفسهم من موقف واشنطن.
ميقاتي يشترط ترؤس حكومة ما بعد الانتخابات؟


الأهم من الدعسة الناقصة الأولى للحريري، أن ما طرحه في القاهرة لم يردّده في لبنان، فلم يعلن دعمه لميقاتي، كما لم يُعلن الأخير موافقته على تولي المهمة. فما الذي حصل؟
تعتبر مصادر قريبة من المفاوضات أن الحريري لم يشأ أن يكشف أوراقه منذ البداية. فهو يفترض أن عون سيحاول تسويق شخصية من ٨ آذار في البداية، لكنه راهن على تراجعه عندما يكتشف مجدداً أن التكليف لن يكون سهلاً من دون اتفاق معه. إذ إن أي تجربة شبيهة بتجربة حسان دياب لن تكون ممكنة في المرحلة المقبلة، حيث يتطلّب الأمر رئاسة حكومة مدعومة من المكوّن السني، لتتمكن من القيام بالإجراءات الآيلة إلى بدء معالجة الوضع الاقتصادي.
ولذلك، بعدما رفض الحريري أن يسمّي أحداً، ورفض ميقاتي العودة إلى رئاسة الحكومة، كانا في الوقت نفسه يبدآن المعركة، بدعم من الرئيس نبيه بري والنائب السابق وليد جنبلاط، انطلاقاً من أن تحالفهم سيعيق سعي عون وحزب الله لطرح أي بديل في الاستشارات التي ترجّح مصادر بعبدا أن تبدأ الاثنين المقبل.
التوقعات تشير إذاً إلى حسم اسم ميقاتي بنسبة كبيرة، لكن الأخير يشترط أولاً الحصول على دعم دولي واضح لمهمته الانتحارية، والأهم أنه يريد ضمانات بأن لا تكون الحكومة حكومة انتخابات فقط، بل أن تستمر حتى الانتخابات الرئاسية. الحجة أنه خلال أشهر قليلة تفصل عن الانتخابات، لن يكون بمقدوره تنفيذ برنامجه للخروج من الأزمة. لكن المضمر في الأمر، أن ميقاتي يراهن على فترة تصريف أعمال طويلة، بعد نهاية عهد ميشال عون، ويريد أن يضمن وجوده خلالها.
مشكلة إضافية لم تحسم بعد هي إصراره على الترشّح إلى الانتخابات المقبلة، مقابل ميل داعميه إلى أن يترأس حكومة انتخابات لا تضم مرشّحين.
إلى أن تتضح وجهة المفاوضات الحكومية الجديدة، فإن الحريري قرّر التفرّغ للانتخابات النيابية متحرراً من تحمّل مسؤولية أي قرارات غير شعبية. فهو يُدرك أنه، كما الفريق المناوئ لحزب الله، داخلياً وخارجياً، لم يعد يملك شيئاً للرهان عليه، سوى الحصول على الأغلبية النيابية، بما يسمح بأن يكون له دور حاسم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفي تحديد مستقبل لبنان.
ولكي يحصل ذلك، لا بديل من دعم الرياض. ولذلك سيتعامل الحريري مع وجوده في المعارضة كفرصة جديدة لنيل الرضى السعودي، وبالتالي عودة الامتيازات المالية التي تضمن له الحصول على التمويل اللازم لمعركته الانتخابية. وهو إذ يدرك أن المهمة لن تكون سهلة، يُراهن على دور مصري ــــ فرنسي ــــ أميركي، قد يسمح لمحمد بن سلمان برؤية لبنان مجدداً على الخريطة.
ظروف ميقاتي مختلفة. هو زعيم طرابلسي يدرك أن لا مجال لهذه الزعامة بأن تتمدد خارج المدينة ومحيطها. رئاستان للحكومة لم تساهما في تغيير ذلك. ولذلك، تؤكد مصادر مطلعة أن عودته مجدداً رئيساً للحكومة، ولفترة طويلة نسبياً، هو حلم كبير، وحتى لو كان ذلك على حساب خروجه شخصياً من النيابة، مقابل احتفاظه بكتلة في البرلمان.
إذا كانت هذه هي فرضية ما بعد اعتذار الحريري، فكيف سيتعامل معها عون، هو الذي يترك الوقت حالياً للكتل للاتفاق على اسم تسمّيه في الاستشارات. حتى اليوم، ليست الخيارات واضحة، لكن مصادر مقربة من بعبدا تؤكد أن الأيام التي تفصل عن الاستشارات يفترض أن تكون كافية لحسم مسألة التسمية. ورغم أن نصف المشكلة مع الحريري كان شخصياً، فإن النصف المتعلق بالحصص والوجهة لن يكون سهلاً تجاوزه. يدرك الحريري وميقاتي ذلك جيداً. ولذلك، يعرفان أن رفع السقف في الوقت الراهن هو حاجة ملحّة في إطار تجميع الأوراق. لكن بعد ذلك، يدرك الثنائي أن لا بديل من البراغماتية، التي تعني عملياً التراجع عن السقف الذي وضعه الحريري.
التوقّعات بأن تنتهي كل التجاذبات المرتبطة بالتكليف والتأليف خلال ثلاثة أشهر، يتم بعدها تأليف حكومة لها مهمتان لا ثالث لهما: إجراء الانتخابات النيابية، وبدء التفاوض مع صندوق النقد الدولي.