أحد دروس تجربة الأشهر الثمانية التي أمضاها الرئيس المكلف السلف سعد الحريري، تأكيد خفّة معادلات وُضعت في ذروة تدهور علاقته برئيس الجمهورية ميشال عون، واستعصاء توصلهما إلى اتفاق على تأليف الحكومة. إحدى المعادلات تلك أن التكليف نهائي. ما إن يأخذه صاحبه، لا يُسترجع أو يُنتزع منه. أما الأخرى، فربط اعتذار الرئيس المكلف بتنحّي رئيس الجمهورية كأن يكون هذا شرط ذاك. ما حدث في 15 تموز أفضى إلى تأكيد المؤكد أيضاً، وهو أن توقيع رئيس الجمهورية يجعله شريكاً في التأليف، على نحو متساوٍ كي تبصر الحكومة النور، من غير أن يكون متزامناً.ليس اثنين ما بعد غد، المرة الأولى يجد عون والرئيس نجيب ميقاتي أن أحدهما سيكون قبالة الآخر في استحقاق ملزم تعاونهما، كي يستمرا معاً أو يفترقا. اختبرا هذا التعاون بصعوبة مكلفة، ولم ينجحا في امتحانه إبان الحكومة الثانية لميقاتي عام 2011. كان عون رئيس الكتلة المسيحية الأكبر، وجزءاً من غالبية نيابية أتاحت له للمرة الأولى الحصول بمفرده على 10 وزراء، هم ثلث الحكومة تلك. بدوره ميقاتي واجه اختباراً سنّياً صعباً، رافقه عمر حكومته طوال سنتين وشهرين، بدأ منذ تكليفه في كانون الثاني 2011، وتسجيله سابقة غير متوقّعة هي هزمه الحريري ـ للمرة الأولى في تاريخ هذا البيت ـ في الاستشارات النيابية الملزمة بفارق ثماني أصوات أخرجته من السرايا. حمل ذلك الحريري على تحريض الشارع السنّي عليه في كل لبنان، بما في ذلك طرابلس، وإشعال الاضطرابات فيها وإطلاق شعارات مذهبية حادة، ثم مقاطعة تيار المستقبل التصويت على الثقة بالحكومة الجديدة، والتسبّب بقطيعة عربية لخلفه.
في ثالثة حكوماته، المفترضة، تبدّلت المواقع والعداوات والتحالفات: بات عون في الثلث الثالث من ولايته الرئاسية، والحريري شريك ميقاتي في نادي رؤساء الحكومات السابقين. شأن إصرار ميقاتي على تكليف الحريري منذ ما بعد تشرين الأول 2020، ودعمه في كل خياراته ومواصفاته لتأليف الحكومة، نجمت تسمية نائب طرابلس رئيساً مكلفاً عن تفاهم بين الحريري ورئيس البرلمان نبيه برّي ليس حزب الله بعيداً منه. ذلك أيضاً رافق تكليف السلف المعتذر. من دون الغطاء الشيعي الحتميّ في الداخل، يتعذر إمرار أي خيار مماثل.
ما إن شاع احتمال تكليف ميقاتي، طُرح سؤال لم يُجب أحد عنه بعد: ماذا يسع رئيس الجمهورية إعطاء الرئيس المكلف ما لم يُعطه لسلفه، كي يتاح تأليف حكومة؟
ليست الصلاحيات الدستورية المتقاطعة بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، خصوصاً التفسير المتباين للمادتين 53 و64، وحدها منعت تفاهم عون والحريري، بل الخلافات الشخصية التي وصلت إلى حدّ البغض والكره وتبادل الإهانات، ما أحال استمرارهما معاً مستحيلاً؟ أما اليوم، فطرح السؤال يقود إلى إجابة معكوسة: لا رئيس الجمهورية يتغيّر بمثل سهولة الانتقال من رئيس مكلف جرّبه إلى آخر كان أيضاً قد جرّبه، ولا ميقاتي أقل تشدداً من الحريري في الإصرار على تفسيره ورفاقه في نادي رؤساء الحكومات السابقين على نحو ما يرومون المادة 64، إذ يعتبرونها هي الأصل في تحديد نطاق الصلاحية المنوطة بالرئيس المكلف لتأليف الحكومة، وحصر التأليف به وحده. ليس غريباً كذلك أن ميقاتي، كسائر رفاقه في النادي، اتهموا الرئيس بمخالفة الدستور والاعتداء على صلاحيات الطائفة السنّية وانتهاك اتفاق الطائف. وهما الآن سيؤلفان الحكومة المقبلة.
لتسمية ميقاتي بُعدان محلي وإقليمي، هو المعتاد على التأليف لا الاعتذار


بذلك، فإن مسار التكليف الجديد ومآله مرتبطان ببضع معطيات مستجدة وقديمة في آن:
أولها، تُعزى دوافع قبول ميقاتي بتكليفه، إلى أنه لا يسعى وراء لقب حازه مرتين. كلتاهما كانتا في مراحل تحوّل سياسي مهم: أولى عام 2005 على أثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في خضم انقلاب موازين القوى رأساً على عقب، وفوز غالبية مناوئة لدمشق بالانتخابات النيابية. وثانية عام 2011 على أثر انهيار الغالبية هذه وانتقالها من فريق إلى آخر، جسّدته إطاحة حكومة الحريري. مفاد ذلك، إقران ترشيح الرجل بمخاض سياسي صعب. لذا لا تنفصل موافقته على تكليفه عن بعدين محلي وإقليمي، شجعا على اقتراح تسميته رئيساً للحكومة المقبلة: أول البعدين توافر غالبية نيابية تؤيده، مشابهة للتي زكت تكليف الحريري قبل أقل من سنة. وثاني البعدين ما يتردّد عن تداول اسمه بين العواصم المؤثرة في الأزمة اللبنانية. تأييد الحريري وبرّي له، وتبعاً لذلك حزب الله، ضروري. بيد أنه غير كاف. كذلك تناقل اسمه بين باريس وواشنطن والرياض كي يدق أبواب طهران تحت شعار منع الانهيار الشامل للبنان.
ثانيها، لا يتنكّب ميقاتي كمّاً كبيراً من الأعباء التي أثقلت على الحريري سواء تسبّب هو بها أو فُرضت عليه. لا قطيعة وعداء بينه والسعودية كسلفه، ويتواصل مع سفيرها في بيروت وليد البخاري، ما يعني أن لا موقف سلبياً ما يحيل هذا العامل شرطاً رئيسياً وحتمياً كي يطأ بأمان أولى خطواته. ذو مصالح متشعبة شرقاً وغرباً تتيح تمكنه من إزالة عراقيل راحت تتراكم على الحريري مذ كُلف، أكثر من أي وقت مضى، وأفقدته صدقيته لدى المتبقي من الدول المعوَّل عليها. بيد أن الرئيس المكلف المحتمل، يعرف أيضاً أن حزب الله - إذ أيد تكليفه ضمناً سواء سمّاه أو لم يفعل كما مع الحريري - لن يُرجّح كفته هو على رئيس الجمهورية. لن يقبل بأكثر مما قَبِلَ به عون للحريري.
ثالثها، رغم التقائهما على النطاق المسلّم به في الصلاحيات الدستورية لتأليف الحكومة، ثمة بون شاسع ما بين ميقاتي والحريري في المقاربات والخبرة والنضوج، أضف القدرات والثقافة السياسية وأدوات الظهور وطرائق التعبير والكتمان. لا يحرد ويزعل مثله، ولا ينفعل للفور و»يسنكف» حتى، ويقاطع المختلِف معهم. ليس شخصانياً ولا هاوياً في أدائه. على طرف نقيض منه، لا يقطع التواصل مع أحد، بما في ذلك أولئك الذين لا يهضمهم بسهولة أو يناوئهم. في وسع ميقاتي الذي تنطبق عليه صفة تاجر المدينة الناجح في إدارة مهنته، أن يبيع كمشة حبوب وأونصة الذهب في آن، ويقارب أهمية سعر تلك بهذه ويحرص عليهما معاً. في المقابل، فشل الحريري مرة تلو أخرى في اقتناص حظوظه عندما يبيع، أو عندما يشتري. بل أفضل ما امتهنه، أنه يعرف يخسر، متى وكيف. خلافاً لسلفه، لا يُجيّر نائب طرابلس سنيّته إلى أحد سواه، ويتمسّك بحجمها في المعادلة اللبنانية. يصعب استفزازه واستدراجه، وفي الوقت نفسه يتعذّر انتزاع ما لا يريد هو أن يقدمه لمحاوره. أمضى 139 يوماً في تأليف حكومة 2011، من غير أن يخطر له الاعتذار، أو يشيعه، أو يهدّد به، كأنه يأتي كي يؤلف. ليس أدلّ على ذلك عندما رفض حينذاك طلب عون تعيين صهره قائد المغاوير العميد شامل روكز قائداً للجيش، فقابله عون ووزراؤه بالحؤول دون تجديد بقاء اللواء أشرف ريفي على رأس المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي.
لا مفرّ من القول إن ميقاتي متعب لعون إذا تساكنا معاً. لكن المعلوم أيضاً أن الرئيس من طراز أولئك الذين يتغذّون بأمزجة «النقار» والصدام، ويسرّه اللعب مع معانديه المحترفين والمهرة، أكثر منهم الذين يشعرونه بأنهم يركبون أحصنة سواهم.