بعد استقالة الرئيس سعد الحريري من التكليف، كان بديهياً أن تبحث الكتل النيابية قبيل ذهابها لاختيار آخر، عما يمكن فعله لتفادي المشكلة التي حالت دون تأليف حكومة بعد مضي 9 أشهر على تكليف الحريري. فبعيداً عن أزمة الوزيرين «المصطنعة»، لم يسأل أيّ من الكتل النيابية التي صوتت لصالح الحريري عن الحلول العاجلة التي ينوي تبنيها في الخطة الحكومية أو حتى عن مهمة الحكومة المقبلة التي سيقودها. وبالتالي، كان طبيعياً أن يقضي الحريري وقته متجولاً بين الدول، فيما البلد يرزح تحت أصعب أزمة اقتصادية في تاريخه. لكن يبدو أن هذه الكتل نفسها لم تتعلم درساً من تجربتها السابقة، وها هي تسارع اليوم للتصويت لمرشحين من دون أن تتوافق معهم حول برنامج ما أو خطوط عريضة توفّر جهد أشهر من المداولات. ففعلياً، كل ما يجري لا يتعدّى كونه اختياراً للشخص على أساس اسمه لا مشروعه وبرنامجه، فيما أثبتت التجربة أن القفز فوق هذه الأساسيات قبيل التكليف، سيقابله فقدان السلطة على الرئيس المكلّف بعد انتخابه، والسماح له ضمنياً بالمماطلة واللعب على الحبال السياسية طالما أن أي اتفاق مسبق على الخطوط العريضة لم يجر النقاش حوله. وتلك معضلة، ستعيد عقارب الساعة الى وقت تكليف الحريري وما تلاه من عدم القدرة على سحب التكليف، لأنه سبق للقوى التي سمّته أن حرّرت له «شيكاً على بياض».ما يجري أخيراً لا يخرج عن سياق التسعة أشهر الماضية. «الشيك» نفسه يحرّر اليوم لرئيس حكومة جديد، أكان اسمه نجيب ميقاتي أم نواف سلام أم فيصل كرامي أم غيرهم، على أن يملأه المُكلّف كما يشاء. الحديث مع مختلف الكتل يقود الى خلاصة واحدة: لم يسأل أحدٌ المرشح عن برنامجه أو مشروعه أو مهمته. وأحدٌ لم يهتم بالاجتماع بميقاتي أو غيره، أقله لجسّ نبض أجندة من سيقود الحكومة ربما لما بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية.
في تيار المستقبل الذي سيقترع لصالح ميقاتي، ثمة مَن يقول إن «تلك الأمور تناقش عند وضع البيان الوزاري، فالأهم هو اسم الرئيس الذي إن فرضه فريق معين فذلك يعني مزيداً من الحصار والانهيار». إجابة تشكّل تهرّباً من أدنى واجبات الأحزاب تجاه المواطنين عبر الذهاب الى تكليف مرشح لاسمه فقط وبحسب انتمائه السياسي، لا لما سيحققه في بلد منهار ويرزح غالبية شعبه تحت خطّ الفقر. فالبيان الوزاري شيء ومهمة الحكومة شيء آخر. وفيما يطرح البيان أولويات الحكومة والملفات التي ستوليها على غيرها كما الخط السياسي، يفترض بالبرنامج أن يتطرق بشكل أساسي الى شكل الحكومة ومهمتها بمعنى ما هو مشروع رئيس الحكومة للخروج من الانهيار الاجتماعي والمالي والاقتصادي والصحي. قبيل ذلك، هل هي حكومة تكنوقراط أم تكنوسياسية؟ هل ستسمي الأحزاب الوزراء أم فرنسا أم رئيس الحكومة بالكامل من دون الاتفاق مع رئيس الجمهورية؟ سبق أن اختلفت الأحزاب بعد تكليف الحريري على هذه النقطة التي استهلكت شهوراً، سواء من ناحية إعادة تجربة حسان دياب بالتكنوقراط أم الحاجة الى تمثيل الأقطاب بشكل مباشر، أم الموازنة بين التمثيل السياسي والاختصاص. وإذا كانت حكومة انتخابات، فسيجري اختيار وزراء غير مرشحين، بمن فيهم رئيس الحكومة نفسه. وإذا كانت حكومة إصلاحات سريعة أو تنفيذ أوامر صندوق النقد أو استكمال خطة حسان دياب للتعافي المالي، فذلك يعني أن ثمة ملفات مُلحة ورؤية حول مصطلح «الإصلاح» وطريقة تطبيقه.
تقول مصادر تيار المستقبل إن البرنامج هو البيان الوزاري، والأهم هو الاسم والخط السياسي


سبق أيضاً أن نشب خلاف حول التصوّر الإصلاحي وتوزيع الخسائر دام 6 أشهر قبل أن يصار الى إسقاط خطة التعافي المالي من قِبَل جزء من القوى المشاركة في الحكومة. الاتفاق مع رئيس الحكومة المُكلّف حول ما سبق، كان يفترض إذاً أن يكون ضرورياً لتحاشي ترف لا تملكه البلاد، وهو هدر المزيد من الوقت. ففي ميزان تيار المستقبل والحزب الاشتراكي وحركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر والقوات، الاسم أهم من البرنامج، فما سيحصل بعد التصويت لمرشح أن الكتل النيابية ستنسحب من المشهد ولن تتم محاسبتها على الخيار الذي اعتمدته، أكان قد عطلّ البلد شهراً أم 9 أشهر أم عاماً كاملاً. وفي ميزان رئيس الجمهورية ميشال عون، هذه الكتل تدرك مسبقاً أنه «سيتم رمي أسباب التعطيل على عون من دون تحميل الأحزاب مسؤولية اختيارها رئيساً يرفض التعاون مع أحد، ويربط أي خطوة برضى خارجي يتوق اليه».
ما سيجري اليوم ليس جديداً. دأبت كل الكتل على أن يصلها اسم المرشح وتقضي مهمتها الوحيدة بتلقينه لنوابها من دون أن تحظى بترف السؤال عن تفاصيل إضافية. أكثر من ذلك، أصرّ رئيس مجلس النواب نبيه بري على الحريري أن يسمّي خلفاً له قبل اعتذاره، وهكذا كان. المعيار هنا ليس سوى رضى الحريري ونادي رؤساء الحكومات عمن سيفوز بالمنصب الذي يظنه هؤلاء امتيازاً لهم. زد عليه معياراً اضافياً هو رضى سعودي أميركي فرنسي طالما أن برنامج الحكومة سبق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن وضع عناوينه العام الماضي، على طاولة قصر الصنوبر. وما على رئيس الحكومة المُكلّف سوى التنفيذ من دون اعتراض أو سؤال، فيما من يناقش أو لا يُعجب بطروحات ماكرون الاستثنائية يُصنّف في خانة المعرقلين ويُهدّد بالعقوبات. ببساطة، مستقبل البلد مُعلّق ما بين كتل نيابية لا تُكلّف نفسها عناء استصراح من تنتخبه لرئاسة الحكومة عن مشروعه ورؤيته في مختلف الملفات الأساسية، وفي لحظة استثنائية تفرض عليها تحديد مصير البلد، وما بين رئيس مُكلّف يتم إسقاطه بما يتناسب مع المعايير الغربية ومدى أهليته لتنفيذ أجندتها في لبنان. هكذا تجري صناعة الحكومات وإسقاطها.