في طريقي إلى المنزل بعد نهارِ عملٍ طويلٍ، أمشي ببطءٍ سارحةً في أفكاري أُطمئن نفسي أن الأزمة مؤقّتة وأن الأمور ستتحسّن حتماً. ثمّ ألمح شاباً في الأربعين من عمره يرتدي سترة زيتية، يسير بحماس ويتحدث بصوت عالٍ مع حرس منزل أحد زعماء الطوائف الأزليين. يبدو من حديثهم أنهم زملاء. «كيفك حبيبي؟ تعشّيت ولّا بعد؟ جاي لعندك». استوقفتني ابتسامته العريضة ومِشيَتُه الواثقة في منتصف الطريق بينما أنا مختبئة على الرصيف أتحسّر على نفسي. من أين تأتيه راحة البال يا ترى؟لماذا يدافع هذا الشاب عن زعيمه ويحميه؟ ألا يدري كم أن الأوضاع بائسة وكم أن النظام مهترئ؟ طبعاً يدرك ذلك. كلنا نعرف ذلك، ولكنّ الفرق بينه وبيني هو أنّني متمسّكة بعملٍ وراتبٍ وضمانٍ اجتماعي وبوليصة تأمين متاحة لي لحماية نفسي وأهلي من هذا النظام وزعمائه، بينما هو ليس لديه غير زعيمه الذي يؤمن له راحة البال التي يتمناها كثيرون. بغياب تغطية صحية شاملة، والتهرّب من تأسيس نظام تقاعدي حمائي (ولبنان من الدول النادرة التي ليس لديها نظام تقاعدي وهذا ليس بصدفةٍ)، وحصر الضمان الاجتماعي بقلة قليلة من الموظفين وأسرهم وعدم تطبيق الآليات القانونية لرفع الحد الأدنى للأجور، وعدم وضع سياسات تحفّز على خلق فرص عمل جديدة، يسعى المواطن إلى حماية من حيث أتت حتى لو كانت من زعيم فاشل وفاسد. بالتالي يدافع المواطن عن مصدر الحماية ذلك مهما كلّف الأمر، لأنه يشكل شبكة الحماية الوحيدة في ظل ازدياد الفقر والبطالة. بينما في المقابل هناك من ينعته بالغنم والقطيع ولا يقدّم له شيئاً، ولا حتى يتحدّث بمشكلة غياب شبكة الحماية الاجتماعية. لا لسنا قطيعاً. من الضروري لهذا الذي يطرح نفسه بديلاً ناصعاً أن يحاول في ثورته فهم أسس العلاقة الزبائنية وديمومتها بدل الاتهامات الفوقية الازدرائية. إن لم نفهم اليوم علاقة المواطن بزعيمه لا يمكن تفكيكها وبالتالي لن نستطيع تغييرها أو تغيير أيّ شيء على الإطلاق. وبالمناسبة، في أزمات كتلك التي نمر فيها، تتشدّد وتتصلّب تلك العلاقة مهما صرخنا «قطيعاً» وفرص نجاح محاولات التغيير تضمحلّ وتختفي.
إحدى أبرز ركائز هذه العلاقة المرسّخة بين الزعيم والمواطن هي تفكيك الحماية الاجتماعية التي توفرها الدولة لجميع مواطنيها بالتساوي واستبدالها بحماية فصائلية مجزِّئة. تتكوّن الحماية الاجتماعية من السياسات الرامية إلى الحد من الفقر واللامساواة من خلال تعزيز فعّالية أسواق العمل، وقدرة السكان على التكيّف مع المخاطر الاجتماعية، مثل البطالة والمرض والعجز والشيخوخة. نظام الحماية الاجتماعية في لبنان منذ تأسيس نظامه الطائفي الليبرالي، نظام متفكّك وارتجالي لم يهدف قط إلى محاربة الفقر أو تأسيس مجتمع عادل. تاريخياً، أقصت السياسات الاجتماعية الطبقات الفقيرة وميّزت بعض الفئات مثل العمال النظاميين وموظفي القطاع العام بمنحهم ضمانات محدودة مثل الضمان الصحي والمساعدات العائلية وتعويضات نهاية الخدمة. أما العمال غير الرسميين فهم مستثنون من أي تغطية مثل العمال الموسميين والزراعيين والعمال المهاجرين، بالإضافة إلى العمال لحسابهم والعاطلين عن العمل والمتقاعدين. اليوم، أكثر من نصف الشعب اللبناني ليس لديه أي تغطية اجتماعية. ومن هنا تبسط الجمعيات الدينية والأحزاب السياسية سلطتها على المواطنين وتشرذمهم. واللافت في الأمر، أن الكثير من الجمعيات الدينية تستعين بموازنة وزارة الشؤون الاجتماعية التي تنفق 60 في المئة منها على تمويل أكثر من 200 جمعية، ما يعني أنه تتمّ الاستعانة بموارد الدولة لتعزيز الولاءات الزبائنية وإضعاف دور الدولة ومؤسساتها.
حالياً، مع رفع الدعم التدريجي واتّساع دائرة الفقر وتجميد برنامج استهداف الفقر المموّل بقرض من البنك الدولي، يتركز الحديث على بطاقة تموينية لـ 60% من الأسر. ولكن من أين يأتي هذا التمويل؟ وهل سيتمّ توزيعها من خلال قنوات سياسية وحزبية؟ يصعب تصوّر تنفيذ مثل مشروع البطاقة التموينية هذا في ظل ما نشهده من فراغ في السلطة التنفيذية وعدم توفر التمويل، والأرجح أنّنا سننتقل إلى نظام مساعدات اجتماعية فصائلي بالكامل، وطبعاً سيعزّز ذلك سلطة الزعماء وديمومة النظام، فلا يلام إذاً المواطن إن تمسّك بزعيمه.
المطلوب في ظل ضعف دور الدولة في تأمين حماية اجتماعية شاملة، والتي هي من أهم وظائف الدولة، ليس تغييبها كلياً من خلال منظومة مساعدات خارجة عنها، بل تفعيل دورها، بما هو ضروري وممكن وواقعياً راهناً، عبر النضال من أجل إقامة نظام شامل للحماية الاجتماعية، ويشمل ذلك منع انهيار الضمان الاجتماعي وحماية تعويضات الموظفين من التبخّر وتوسيع نطاق الضمان الاجتماعي الاختياري نحو تغطية صحية للجميع، وإقرار نظام تقاعدي وتأمين حق السكن والتعليم. العقبة الأكبر أمام تفعيل سياسات تساهم في مكافحة الفقر واللامساواة تكمن أولاً في غياب الإرادة السياسية لدى النخب الحاكمة وثانياً في إهمال الحركات المعارضة لأهمية الحماية الاجتماعية الشاملة، لا بل بدأت بعضها بتأسيس جمعياتها الخيرية الزبائنية على غرار زعماء الطوائف.
إنشاء نظام شامل للحماية الاجتماعية اليوم، هو خطوة ضرورية لتحرير السياسات الاجتماعية من الأعراف المتّبعة لعلاقات الولاء الزبائني وإعادة بناء الثقة في مؤسسات الدولة والمواطنة. قد يكون المواطن جاهزاً لفكّ الارتباط بالزعامة التقليدية ولكن علينا تقديم بديل واضح وصريح، وهذا يحتّم أيضاً التفكير والتخطيط لنظام سياسي واقتصادي جديد بدلاً من الاكتفاء بقرع ناقوس الفساد وباتهام الشعب بأنه قطيعٌ.
* باحثة جامعية