تعميمُ مصرف لبنان (قرار أساسي 13353 الصادر بالتعميم 159 بتاريخ 17 آب 2021) القاضي بحصر شراء المصارف للدولارات من حسابات الدولار الطازج لديها، والقرار الذي كان بصدد إصداره لإلزام شركات تحويل الأموال («أو أم تي»، ويسترن يونيون، كاش يونايتد...) بدفْع نصف التحويلات بالدولار والنصف الآخر بالليرة اللبنانية وفق سعر «منصة صيرفة»، سيتسبّبان بانخفاض كمية العملة الصعبة التي تدخل إلى لبنان. حسابات «الفريش» شكّلت مصدر «طمأنينة» (إلى حدّ ما) بالنسبة إلى العملاء، الذين كانوا يضمنون بنسبة كبيرة حصولهم على أموالهم الآتية من الخارج، رغم أنّ بعض المصارف فرضت إجراءات غير قانونية عليهم، كتجميد الأموال لفترة مُعينة، أو تقنين السحوبات من هذه الحسابات. أما التحويلات عبر المؤسسات غير المصرفية، فأمّنت خياراً بديلاً لمن لا يملك حسابات مصرفية أو لا يُريد التعامل مع المصارف، ولا سيّما بعدما عاد قبل سنة العمل بتسديد التحويلات بعملتها وليس بالليرة اللبنانية. أتى حاكم البنك المركزي، رياض سلامة ليهزّ الثقة بهاتين القناتين الرئيسيتين اللتين تؤمنان دخول العملة الصعبة إلى لبنان. هو يُدرك أنّ أي قرار يتخذه سيؤدّي مباشرةً إلى تراجع التحويلات، ولن تقدر على تعويضها «تحويلات الشنطة» لأنّها أكثر كلفة وغير مُتاحة بشكل سهل لجميع زبائن شركات التحويل أو حسابات «الفريش» الصغيرة والمتوسطة.في سجلّ سلامة تجربتان فاشلتان للحصول على أموال شركات التحويل. أصدر في 14 كانون الثاني 2020 التعميم الرقم 514 الموجّه إلى المؤسسات المالية غير المصرفية لدفع التحويلات لأصحابها بالليرة اللبنانية بسعر 1507.5 ليرة لكلّ دولار، قبل أن يتراجع عنه. كرّر «الاختبار» في 16 نيسان 2020، مع القرار الوسيط الرقم 13220 بتسديد التحويلات المالية بالدولار بحسب «سعر سوق» حدّدته مديرية العمليات النقدية في «المركزي» بـ 3625 ليرة للدولار. الهدف كان تمويل «السلّة الغذائية»، فانخفضت التحويلات عبر المؤسسات غير المصرفية من 150 مليون دولار شهرياً إلى حدود الـ 25 مليون دولار شهرياً («الأخبار» عدد 24 تموز 2020)، قبل أن يتراجع عنه أيضاً. فلماذا العودة مرّة ثالثة إلى قرار معروفة نتائجه؟ «لأنّ سلامة لا يهتم لما يجري خارج حدود البنك المركزي»، تقول مصادر مُتابعة. تبلغ التحويلات الشهرية عبر المؤسسات المالية حالياً قرابة الـ 125 مليون دولار شهرياً، «لن يُبالي إن انخفضت إلى أقل من النصف، طالما أنّه يضمن حصوله على نسبة مُعينة منها». الرهان على أنّ التحويلات «ستنخفض في المرحلة الأولى، ولكن الأرجح أن ترتفع بعد «ركلجة» السوق، لأنّه خلال الأزمات ترتفع نسبة التحويلات من المغتربين إلى العائلات في الداخل، وهذه المرة يُعتمد سعر صرف أقرب إلى سعر السوق الموازية، فلا يشعر الزبون بأنّه يتعرّض لقصّ شعر (هيركات) كبير». لا توافق المؤسسات المالية غير المصرفية على ذلك، بل تعتقد أنّه سيكون للقرار لو اعتُمد تبعات سلبية كبيرة على التحويلات. ومن المتوقع «أن نعقد اجتماعاً مع سلامة اليوم أو غداً لنشرح له الوضع، ونُقدّم له الأرقام حول كمية التحويلات، ونسبة انخفاضها في حال تقرّر أن يُدفع نصفها بالليرة، تبعاً للتجربتين السابقتين». اللافت بالنسبة إلى مصادر المؤسسات المالية «الحرص على حماية دولارات المودعين في حساب التوظيفات الإلزامية، مُقابل استسهال الاستحواذ على دولارات العائلات الفقيرة والمتوسطة، ولا سيما أنّ نصف التحويلات تقلّ قيمتها عن 300 دولار، وهناك العديد من العمليات لحوالات أقل من 50 دولاراً». بعد تواصل المؤسسات المالية مع سلامة، جُمّد إصدار القرار، أما في حال «أصرّ على إصداره، فهذا دليلٌ إضافي على عدم وجود 14 مليار دولار في حساب التوظيفات الإلزامية، لذلك يسعى إلى جمعها من مصادر أخرى ليتمكّن من فتح اعتمادات للاستيراد، وإكمال ولايته قبل أن يُسلّم الخزنة فارغة لخلفه».
قرار سلامة سيؤدّي مباشرةً إلى تراجع التحويلات


التعميم المُتعلّق بشركات التحويل قيد المشاورات، فيما دخل التعميم الرقم 159 حيّز التنفيذ. المادة الأولى منه تُحظر على المصارف احتساب الأموال التي تتلقاها نقداً بالعملات الأجنبية بما يفوق قيمتها، وتُستثنى تلك المُستخدمة لتسديد نهائي لدين مُتوجّب على عميل، «على أن يتم إعلام لجنة الرقابة على المصارف بهذه التسوية». فمنذ نيسان 2020، بدأت المصارف تسويق مُنتج مضاعفة وديعة الدولار بنسبة تتجاوز الضعفين (بين 2.1 و2.5 مرّة)، ما يعني أنها دفعت فوائد فورية، في السجلات لا نقداً، بـ 150%. حين يأتي زبون إلى المصرف حاملاً مليون دولار «كاش»، كان يُفتح له حساب بمليونين و100 ألف دولار. تأخذ المصارف الدولارات وتدفع للزبون قيمة الوديعة على أساس سعر الدولار الرسمي، 1507.5 ليرة. في الأسابيع الأخيرة، رفع بعض المصارف «فئة ألف» نسبة المضاعفة إلى 5.8 مرّات (مَن يأتي بمليون دولار نقداً، يُسجّل في حسابه 5 ملايين و800 ألف دولار). طوال أشهر، غضّ سلامة بصرَه عن قيام المصارف بهذا الإجراء، الذي ساعدها على تكوين سيولة بالدولار وتسديد التزامات، رغم زيادة أعبائها عن طريق تسجيل خسائر بالليرة. حالياً، قرّر أن يوجّه هذا المُنتج لغرض تسديد القروض، «وذلك في إطار تطبيقه خطته الحدّ من خسائر القطاع المصرفي، وتقليص الفارق بين المطلوبات والموجودات لإنقاذ رساميل المصارف». فضلاً عن أنّه بسبب تركّز نسبة القروض لدى أقلية من المُنتفعين (في عام 2019، كان 0.23% من المقترضين يستحوذون على 49.41% من القروض)، «يوجد مصلحة مشتركة بتشريع مُنتج المضاعفة لتسديد القروض».
أما المادة الثانية من التعميم فهي منع المصارف من المتاجرة بالشيكات أو شراء الدولارات من السوق، والسماح لها بشرائها من حسابات المودعين «الفريش» بحسب «سعر السوق» على أن تُسجّل على منصة صيرفة. صحيح أن التعميم الجديد لا يُلغي تعميماً سابقاً لسلامة يمنع فيه تقييد حسابات الـ«فريش دولار»، إلا أن مجرّد إعطاء المصارف حق شراء الدولارات من هذه الحسابات بثّ الذعر في السوق من أن يمنح القرار البنوكَ ذريعةً للاستيلاء على دولارات الزبائن. المُدافعون عن تعميم سلامة يعتبرونه «يُضيّق الخناق على المصارف بعدما باتت لا تعمل إلا كمُضارب في السوق». ينفع التذكير بأنّ سلامة أصدر تعاميم بدت كأنها «تحثّ» المصارف على شراء الدولارات من السوق الموازية لتكوين سيولة خارجية وزيادة رساميلها، وكان يعلم ببيعها شيكات مصرفية بأقل من 18% من قيمتها، إن كان بالليرة أو الدولار، من دون أن يُطبّق عليها القانون ويمنعها من ذلك. استفاق أخيراً بعدما لم يعد يرى حاجةً لتلك المضاربات، وبعدما بدأ الأمر يرتدّ عليه. تقول المصادر الاقتصادية إنّ «مصلحة سلامة انهيار الليرة للتخلّص من خسائره، ولكن ليس انفلات السعر إلى هذا الحدّ. سعر الصرف ضاغط عليه».
حسناً، لكي تشتري المصارف دولارات المودعين، فهي بحاجة إلى الليرة، والقطاع يُعاني نقصاً في السيولة بالليرة، فمن أين ستحصل عليها؟ يُراهن سلامة على رفع أسعار الاستيراد، والطلب من المستوردين الدفع بالليرة لفتح اعتماد بالدولار، ليُعيد إقراض هذه الليرات للمصارف. يعني ذلك «ضخ عملة أكبر في السوق وزيادة الكتلة النقدية. فالدَّين هو أيضاً طبع عملة».
دائماً ما يُعلن سلامة نيّته إعادة الثقة بالقطاع المصرفي. قراراته الأخيرة لا تُحقّق الهدف، بل تُرسّخ دور المصارف كـ«صرّاف». المفارقة عن المرات السابقة، أنّه يُحاول إخراج المصارف من السوق الموازية للدولار، وربط عملياتها بالبنك المركزي، عبر تفعيل منصة صيرفة، ليتحوّل هو إلى «السوق»، واللاعب الوحيد الذي يتحكّم بالعمليات النقدية بالدولار... مُفترضاً أنّ المصارف ستُطيعه أو أنّه قادر على ضبطها.