خلال الأسابيع الماضية، ناقش حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة مع وزير المالية ومرجعيات سياسية أخرى فرض تعرفة جديدة لجباية فواتير الكهرباء والمياه والهاتف والضرائب... بأن تُحتسب وفق سعر صرف 3900 ليرة لكلّ دولار. بالتزامن، تحدّث مع رئيس جمعية المصارف، سليم صفير عن نيّته تحويل ثلث الودائع بالدولار الأميركي إلى الليرة اللبنانية، عبر تشجيع المودعين لسحب ودائعهم والبحث عن سعر جديد للمنصة التي أُنشئت بموجب التعميم 151 غير سعر 3900 ليرة/ دولار («الأخبار» عدد 30 حزيران 2021)، مع ما يتسبّب به ذلك من زيادة النقد بالليرة في التداول... الذي يُريد سلامة في الوقت نفسه محاربته وتقليصه.يُدرك سلامة أنّ زيادة أسعار الخدمات (وقد سبقها ارتفاع كلفة الدواء والمحروقات) من دون أن يُرافقها تصحيح للأجور، يعني تقليص القدرات الاستهلاكية والمعيشية للسكّان إلى الحدّ الأقصى، ليُصبح مدخولهم ومُدخراتهم بالليرة بالكاد تكفي لتغطية المصاريف الأساسية، مستفيداً من تضييق المصارف على السحوبات بالليرة، فارضةً سقوفاً شهرية، حتى على حسابات الرواتب. أي أنّها تمنع الموظفين، ومنهم كُثر لا يملكون سوى راتبهم الشهري، من الحصول على أموالهم. ولكنّ سلامة لم يهتم سوى بأمر واحد: المزيد من إفقار المجتمع. اعتبر حاكم المصرف المركزي أنّ اقتراحه يُضيّق الخناق على الناس عبر رفع قيمة الخدمات التي يدفعونها، حتى لا يتبقّى معهم ليرات لبنانية «زائدة» يستبدلونها في السوق بالدولار الأميركي. حاول التسويق لوجود «كميات كبيرة من الليرات في المنازل»، مُشدّداً على أنّ الكتلة النقدية بالليرة (بلغت وفق آخر إحصاءات 45 ألف مليار) باتت ضخمة، ويريد إعادة سحبها من السوق.
بالمناسبة، كمية النقد في التداول لم ترتفع من تلقاء نفسها، بل كان سلامة الراعي الرسمي لها. هي سياسة مُمنهجة اعتمدها منذ بداية الأزمة لتحقيق هدفين: حماية المصارف من الإفلاس وحتى لا يتحمّل المساهمون فيها مسؤوليتهم من الخسارة عبر الضخّ من أموالهم الخاصة، والهدف الثاني هو سدّ جزء من الفجوة في حسابات مصرف لبنان والإيحاء بأنّه لا خسائر في ميزانيته. نُقلت إذاً الكلفة من القطاع المصرفي والمالي، المسؤول الأول عن الأزمة، ليتحملها كلّ المجتمع اللبناني. وحالياً، ينوي سلامة التشدّد أكثر في تجفيف النقد بالليرة من السوق، لأنّها وفق قاموسه الطريقة الوحيدة لضبط سعر الصرف وإجراءً استباقياً يسبق تعديل سعر صرف الدولار المصرفي ليُصبح 8000 ليرة عوض الـ3900 (كما يُحكى بين الأوساط المصرفية).
يعتبر سلامة أنّ لمّ النقد من السوق يلجم انهيار سعر الصرف


إجراء سلامة أدّى إلى اتّقاد النار مُجدّداً بينه وبين المصارف. فقد أعلنت جمعية المصارف في بيانٍ أنّ «سقف السحوبات النقدية التي طبّقتها المصارف مُجبرةً هي ناتجة من خفض مصرف لبنان لسقوف الأموال النقدية التي يُمكن للمصارف سحبها من المركزي بحسب كوتا تمّ تحديدها لكل مصرف. لذلك لا يُمكن للمصارف إعطاء أوراق نقدية بالليرة تفوق ما يؤمّنه مصرف لبنان، خصوصاً أنّ الزبائن يُبادرون بالسحب من دون أي إيداعات تُعوّض الطلب المستمرّ على النقد. انطلاقاً من هذا الواقع، طلبت المصارف من المؤسسات الراغبة تخطي السقوف المعمول بها في إطار دفع رواتب موظفيها أن تُبادر إلى المساهمة بتوفير النقد، خصوصاً إذا كانت تتقاضاه عن خدماتها».
تؤكّد مصادر متابعة «وجود شحٍّ بالليرة في القطاع المصرفي»، وتُقدّم مثالاً أحد المصارف من الفئة الأولى «يشتري شهرياً بموجب شيكات، ما بين 120 و150 مليار ليرة نقدية، يدفع عليها عمولة تتراوح ما بين 12 في المئة و15 في المئة». فمصرف لبنان خفّض «الكوتا» المسموح بها لكلّ مصرف، «ومعظم المؤسسات التي تُحصّل أموالاً بالليرة لم تعد تودعها في القطاع المصرفي، إما تشتري بها دولارات من السوق أو تستعملها لدفع الرواتب والمصاريف التشغيلية». ولكن يُنقل عن رياض سلامة أنّ المصارف «ضبّت» في الأشهر الماضية «كميات كبيرة من الليرة، لم تُعطها للمودعين، بل اشترت بها دولارات من السوق».
بعيداً من شدّ الحبال المستمر بين البنك المركزي من جهة، والمصارف من جهة أخرى، سحب الليرة من السوق بشكل اعتباطي ومن دون أن يكون ذلك جزءاً من رؤية متكاملة، يؤدّي إلى المزيد من خنق المجتمع. مستوردو المحروقات والأدوية والقمح بحاجة إلى الـ«كاش» لفتح اعتمادات. التجّار بحاجة إلى الكاش لشراء الدولارات لاستيراد السلع. السكان بحاجة إلى الكاش لتعبئة البنزين والذهاب إلى السوبرماركت والدفع للمستشفى ولصاحب المولّد والفواتير الرسمية... كلّ الاقتصاد يتّكل على النقد لإتمام عملياته. لم يحصل ذلك إلا بعد انهيار القطاع المصرفي وتوقّفه عن تأمين خدمات الزبائن، بوجود حاكم للبنك المركزي يتّخذ كلّ الإجراءات التي تمنع تحقيق الاستقرار النقدي والاقتصادي.