الحملة المستجدّة حول انتخاب المغتربين، أو غير المقيمين، وهو الاسم المعتمد في قانون الانتخاب، والحملة الموازية المتعلقة بتقريب موعد الانتخاب، تعنيان بداية أن هناك من يستخفّ بعقول اللبنانيين، أو أن هناك من لم يقرأ القانون حين أُقر، إلا في ما يتعلق بتوزيع الدوائر والمقاعد والصوت التفضيلي، وأن هناك من لا يعرف حيثيات وأهمية المواعيد الدستورية، أو يعرفها ولا يجد حرجاً في القفز فوقها.منذ أشهر، لم تعر القوى السياسية اهتماماً للشقّ المتعلق بانتخاب المغتربين وبالبطاقة الممغنطة، رغم لفت نظر المسؤولين إليهما عبثاً. لكنّ بعض القوى السياسية المهتمّة اليوم باقتراع غير المقيمين، باعتبار أنه «سيغيّر خريطة المجلس النيابي»، كانت مشغولة بمعاركها السياسية والحكومية، فلم تعر اهتماماً بأنّها حوّلته إحدى أدوات معركتها الانتخابية لاستقطاب الأصوات المحلية، وهي مدركة بأن هذه المادة لن يُعمل بها لأسباب عملانية.
أولاً، الكلام عن تقريب موعد الانتخابات يتخطّى قانون الانتخاب، والمهل المتعلقة بلوائح الشطب التي لا تصبح قوائم ناخبين إلا في 30 آذار عام 2022، أي أن لا انتخابات نيابية حكماً قبل هذا التاريخ. وإلا فإن أي عملية انتخابية مبكرة يجب أن تتم وفق تعديلات القانون والمواعيد أو الأخذ بلوائح الشطب لعام 2021، أو ستخضع لتعديل جوهري في كلّ المواعيد والاستحقاقات في أقلام النفوس ودوائر السجل العدلي والمحاكم العدلية وتنقيح اللوائح ونشرها ومن ثم تصحيحها وصولاً إلى تجميدها. علماً أن قوى معارضة تطالب بتقريب موعد الانتخابات، لا ترى مانعاً في إجراء هذه التعديلات لتُجرى الانتخابات في بداية فترة الشهرين اللذين ينص عليهما القانون لإجراء الانتخابات قبل انتهاء ولاية المجلس الحالي، بدل نهاية المهلة في أيار. والمفارقة أن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد بدا واضحاً في تأييد تقريب المهلة إلى آذار بدل 8 أيار.
ثانياً، في ما يتعلق باقتراع المغتربين. تتعامل القوى السياسية وكأنها فوجئت بقانون الانتخاب واستفاقت المعارضة والموالاة فجأة على هذه الإشكالية. لكنّ القانون صدر في حزيران عام 2017، أي أن عمره أربع سنوات، والكتل النيابية التي تذكّرته كانت موجودة وناقشته وصوّتت عليه، بغضّ النظر عن أي ذرائع، ومنها أنها غضّت النظر عن اقتراح التيار الوطني الحر من أجل تمرير القانون على أن تُعدل المادة لاحقاً أو تبحث في آلياتها. فالنقاش الجدي لإجراء تعديلات جوهرية كهذه لا يُبحث في ربع الساعة الأخير، لأن المواد الواردة في الفصل 11 من القانون واضحة حتى بثغراتها وبالنواقص التي تحتاج إلى معالجة، وكان يُفترض بالقوى السياسية أن تعمل على ترجمة عملية لآلية الاقتراع وموجباتها وتطبيقها العملي، خلال السنوات الماضية. أما النقاش اليوم حولها فيبدو عبثياً، لأنه يتم من خارج القانون وحيثياته، ولا أحد يتوقّع أن تُبَتّ قضية بهذا الحجم خلال أسابيع، علماً أن المهل المتبقية، وهي كثيرة، والمتعلقة باقتراع المغتربين لم تعد تسمح باستنفاد الوقت، كما أنها بدأت تصبح مجرد خلاف إضافي في إطار النزاع السياسي لا أكثر ولا أقل.
تتعامل القوى السياسية وكأنّها فوجئت بقانون الانتخاب واستفاقت فجأة على هذه الإشكالية


ثالثاً، بحسب الذين ناقشوا قانون الانتخاب (من غير القوى السياسية حكماً)، فإن طرح تصويت غير المقيمين لم يوضع بهدف استثمار المغتربين على طريقة القوى السياسية التي تتعامل مع الاغتراب وكأنّه بقرة حلوب. بل إن الاقتراح حمل أساساً صبغة معنوية لتشجيع المغتربين وتأكيد ارتباطهم بلبنان، وكي تعكس مشاركتهم التنوّع كفكرة، وليس حصر مشاركتهم بالتمثيل الطائفي الجامد. من هنا أُخذ بالاقتراح لستة مقاعد موزّعة على القارات الست، ولتمثيل الطوائف الكبرى، لكنه بقي مستعصياً في تحديد توزيع المقاعد كطوائف على أماكن المنتشرين، بحسب القارات، وتُرك للمعالجة السياسية لاحقاً، وهذا ما لم يحصل. لذا يفترض أن تصبح هذه المعالجة، ولو عُلّق العمل بها حالياً، على طاولة بحث موسّعة بين لبنان والمغتربين، منذ الآن، وعلى أُسس شاملة أبعد من تعداد الكتل السياسية للمغتربين وتوزيعهم على الأحزاب للاستفادة منهم. علماً أن النقاش حول هذا البند لم يأخذ في الاعتبار التغييرات التي يشهدها مجتمع المغتربين، حين نتحدث عن جيل ثالث وجيل رابع منهم وعلاقتهما بلبنان مختلفة عن الجيليْن الأول والثاني، ولا أطر تنظيمية لهما، سوى ما تحاول الأحزاب فعله عبر استثمار ماكيناتها الانتخابية في بعض المجالات، تماماً كما يحصل اليوم.
رابعاً، في مقابل تعليق العمل ببند اقتراع غير المقيمين، تبدأ حملة الضغط السياسي لإعادة العمل باقتراعهم عبر البعثات الدبلوماسية كما حصل في دورة 2018. لكن ما قاله رعد أمس حول الأكثرية النيابية أثار قلق معارضي الحزب بأن يكون الهدف في المحصّلة إلغاء الانتخابات النيابية، وبالحد الأدنى منع عودة العمل باقتراع المغتربين الذين، في رأي هؤلاء، سيغيّرون معادلة المجلس. لذا سيتحول الضغط إلى عودة العمل باقتراع المغتربين عبر البعثات وتوسيع قاعدة التسجيل وفتح العديد من المراكز، رغم كل ما تعيشه البعثات الدبلوماسية من تراجع في أوضاعها اللوجيستية، والانتباه إلى المهل ومواءمتها لتنفيذ كل الإجراءات المطلوبة. وهذه العملية السياسية ستكون مرة أخرى مجالاً للضغط مقابل فتح باب التحديات أمام الأحزاب، ليس لتظهر موقفها من اقتراع المغتربين فحسب، بل العمل على استثمار كل الأدوات اللازمة لحشد مناصريها من الآن على عناوين جذّابة. وسيكون الكباش واضحاً سياسياً وطائفياً حول هوية مؤيّدي اقتراع المغتربين ورافضيه، وهي معركة من سلسلة معارك لإبقاء الانتخابات في موعدها أو تطييرها.