إعلام السعودية والإمارات المسيطر على الشاشات من دون منافسة جدية، مضافة إليه مواقع وصحف، على تعاستها، كلها منشغلة هذه الأيام، كما هي حال قوى سياسية ومنظمات «ثورية مدنية»، بالبحث عن سبل لعلاج ما يصفونه بـ«أزمة تخلّي أميركا عن لبنان». ومشكلة هؤلاء تشبه مشكلة نظرائهم في دول كثيرة في العالم، من أميركا اللاتينية إلى وسط آسيا، ومن أفعانستان إلى سلطة محمود عباس في رام الله، ومن العراق وسوريا واليمن إلى لبنان، وما تمظهر أخيراً من إحباط في عدد من إمارات القهر في الخليج.حال الإنكار ليست وصفة خاصة بشعب من دون غيره أو بحزب من دون غيره. وهي موجودة لدى كثر بمعزل عن أصنافهم وأهوائهم. لكنها، في بلادنا، تتحوّل إلى مرض مستدام وعضال يفتك بكثيرين. ومع ذلك، فإن من يتّبع أثرهم في الحياة العامة لا يتعلم الدرس. والخلاصة البديهية هي أن كل هؤلاء يمارسون التناقض في فهم وشرح سياسات الولايات المتحدة. انظروا إلى فرنسا كيف تعاني الأمرّين جراء ما حصل في صفقة الغواصات. مشكلة فرنسا أنها تعتقد بأن العالم سيقف على خاطرها، ويغضب الفرنسيون قليلاً قبل أن «ينضبّ» الجميع، ويعودوا إلى بيت الطاعة ليصرخوا كل على طريقته: ليس باليد حيلة!
حقيقة الأمر أن فرنسا، مثلاً، لا تريد أن تقرّ بأن التغييرات التي طاولت سياساتها الداخلية والخارجية في العقدين الماضيين، لم تكن لتأتي بنتيجة مغايرة. لا هي دولة عظمى قادرة على ادّعاء قدرات عسكرية استثنائية، ولا هي دولة تشهد نمواً خاصاً في الاقتصاد المنتج، بينما غلبت على نخبتها حلقة مالية يمثلها اليوم إيمانويل ماكرون وصحبه، وهي حلقة تنتمي إلى سوق الأعمال الذي قرره الأميركيون ما بعد انتهاء الحرب الباردة. قررت النخب الفرنسية التخلي عن كل ما كان يعرف بالتقاليد التي تميزها عن غيرها. لكنها، في حقيقة الأمر، ليست سوى دولة استعمارية ضعف عودها، ولم تعد تُرهب أو تغري، لا العالم المتقدم ولا العالم الفقير. مع ذلك، فإن ماكرون، مثلاً، يشعر بالغبطة وهو يرى أن في العالم شعباً كاللبنانيين ينتظر منه المنّ والسلوى، وهو مستعد لقضاء عطلته الأسبوعية في بيروت بدل سماع ضجيج المحتجين في باريس.
اللبنانيون أنفسهم، الذين يحجّون إلى باريس طلباً للعون، يراهنون اليوم على قدرة فرنسا على ملء فراغ كبير ناجم عن «التخلّي الأميركي» كما يعتقدون. وهؤلاء يرفضون الإقرار بالهزيمة التي أصابت كل مشاريعهم في كل هذه الأمكنة من العالم. وبدل الإقرار بالفشل ولا جدوى حروبهم على أنواعها، يرمون بالمسؤولية على الخارج. سبق أن طوشونا بنظرية حروب الآخرين على أرضنا، والآن يريدون صمّ آذاننا بنظرية تخلّي الآخرين عنا. هؤلاء سيرفضون، من الآن إلى أبد الآبدين، الإقرار بالهزيمة. وليس منطقياً ولا مستحباً أن ينتظر أحد خروجهم من الساحة. هل تظنّون أن ملك الاعتذارات والاستدارات وليد جنبلاط سيخرج على أبناء طائفته، قبل بقية اللبنانيين، يعتذر منهم عن المصائب التي لحقت بهم جراء سياساته. وهل تعتقدون أنه، وغيره من بقية الإقطاعيين من الجيلين القديم والجديد، سيطلق رصاصة على رأسه تاركاً وصية بتوزيع ما استولى عليه من الناس عليهم، أو أن يتخلى أحد من هؤلاء عن السلطات بعد كل الفشل الذي أصاب سياساتهم؟ لن يحصل ذلك. لا تنتظروا شيئاً من هذا القبيل...
الإنكار وسيلة الأتباع بدل المراجعة وعلينا تحمّل صراخهم بأن «العالم تخلّى عنا»


اليوم، يريدنا هذا الفريق أن نصدق أن أميركا وكندا وبريطانيا وبقية الاتحاد الأوروبي، ومع هؤلاء إسرائيل والسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت ومصر وجماعات أخرى، لم يجرّبوا كل السبل لتطويع هذه البلاد، وكأن اجتياحات الجيوش الأميركية والفرنسية والبريطانية والإسرائيلية للبنان حصلت قبل ألف سنة وليس قبل أربعة عقود فقط، أو كأن عشرات مليارات الدولارات التي أنفقت على هؤلاء، وسرقوا معظمها، لم تُصرف لإنجاح مشروع الفاشلين، أو كأن كل أنواع الضغوط والحروب والحصار والقتل والعقاب لم تحصل ولا تزال مستمرة.
مشكلة اللبنانيين المحبطين أنهم لا يريدون سماع ما يقوله عنهم الأميركيون والغربيون وأمراء الفتنة في الخليج، وكيف يكيلون لهم الشتائم ويلعنون الساعة التي تعاونوا فيها معهم. حتى إسرائيل، نفسها، ضاقت ذرعاً بهؤلاء وتركتهم عند بوابة الذل...
اليوم، نحن أمام مفصل جديد في هذه السياسات. أميركا تعالج خسائرها القائمة أو المرتقبة. وهي محقّة في العمل على برنامج الحدّ من الخسائر. فشلت عقود من حروب التدخل في تطويع دول كبيرة أو صغيرة. وهي تعرف أن خيار الخروج من المنطقة ليس للنقاش، بل هو ما تفعله بهدوء كما حصل في أفغانستان، أو تحت أزيز الرصاص الذي سيطاردهم على أي هيئة كانوا عليها، جيوشاً أو أمنيين أو عملاء بصفات دبلوماسية وأكاديمية وخلافه. وتعرف أميركا، جيداً، أن خصومها لن يتوقفوا عن العمل على طردها كيفما كان من المنطقة. وهي تعرف أنها غير قادرة على التضحية أكثر حيث لا جدوى من البذل. لكنها متيقّنة من أنها غير قادرة على حماية نفسها بواسطة من اعتبروا أنفسهم حلفاء لها وتصرفت معهم على الدوام كأدوات وعملاء.
اليوم، يحصد قسم من اللبنانيين الخيبة والإحباط جراء عقدين من الرهانات المجنونة. وليس متوقعاً أن يجري هؤلاء أي مراجعة، بل سنرى مزيداً من التعنت والجنون، ومزيداً من البحث عن خارج يوفر لهم ما يفترضون أنه حماية أو دعم. لكن هؤلاء، يلمسون، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن مصيرهم ليس على جدول أعمال رعاتهم من العرب أو أهل الغرب المتعالي، الذي لا يتوقف عن إذلال اتباعه، ودفعهم إلى القتال، إنما من دون أدوات إضافية. وهو يدرك، عملياً، أنه يدفعهم إلى الانتحار وليس أي شيء آخر.
قلة قليلة من العقلاء أو الواقعيين تطل برأسها في عدد من دول المنطقة، تحاول البحث عن مخرج يمنع تدفيعها الثمن مرات إضافية. لكن، ليس في بلادنا ما يشير إلى أن فرق المجانين، المنتشرة في كل نواحي البلاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية والثقافية والإعلامية، قد تعلمت الدرس. وجلهم لا يزال ينتظر أن يرنّ هاتفه، وأن يسمع على الطرف الآخر موظفاً من السفارة الأميركية يلقي عليه التحية أو يسأله عن أحواله!