أجاز القانون والشرائع الحق للمدّعى عليه بأن لا يعدم وسيلة للدفاع عن نفسه وإبعاد الشبهة عنه لإثبات براءته طالما أنّها تحت سقف القانون الذي أباح له ذلك. فكيف في لبنان، حيث تصدر أحكام الرأي العام بالإدانة أو التبرئة تبعاً للأهواء، وغالباً من دون دليل، ومن دون السماح لـ«المشتبه فيه» حتى بالكلام. ومع صحة أن السياسيين يتحمّلون الوِزر الأكبر من مأساة بلادنا، إلا أن ذلك لا يُبيح أن يُنسب لأيٍّ منهم ارتكاب مجزرة لمجرد أنهم يستحقّون القصاص. ومع الافتراض جدلاً بإمكان استغلال جريمة لإنزال القصاص على الارتكابات السياسية، فلماذا لا يكون ذلك في حق كل المرتكبين السياسيين؟وقعت الكارثة في الرابع من آب 2020، واتّفق الجميع على إحالة الملف على المجلس العدلي. عُيِّن القاضي العسكري فادي صوّان محققاً عدلياً، لكنه ما لبث أن نُحّي عن الملف بناءً على قرار محكمة التمييز للارتياب المشروع الذي تقدّم به النائبان علي حسن خليل وغازي زعيتر. بعده، كُلِّف القاضي طارق البيطار محققاً عدلياً جديداً، فانكبّ على دراسة الملف قبل أن يُعلن ادعاءاته. ادعاءات لم تكن شاملة بل استنسابية، بحسب ما عبّر الفريق السياسي المستهدَف بالادعاء، بعدما اقتصر الادعاء على شخصيات يحسب معظمها على طرف سياسي معين، وبعد استثناء غير مبرر لمسؤولين تعاقبوا على شغل المناصب نفسها مع أنّ الحكم استمرارية بما لا يُعفي المستبعدين من المسؤولية، إن وُجدت أصلاً، لأن المسؤولية الأكبر تتحملها قيادة الجيش والقضاء. وكان لافتاً تحييد البيطار قيادة الجيش الحالية، ولم يقترب من القضاة في جولته الأولى، كما حيَّد هيئة القضايا في وزارة العدل ووزراء العدل والدفاع جميعاً. وسُرِّب في وسائل الإعلام وذاع في أروقة العدلية أنّه في صدد توقيف الوزراء والنواب المدّعى عليهم حتى قبل استدعائهم. ونُقل عن المحقق العدلي أنّه يُريد محاربة الطبقة السياسية والانتقام منها، ونُشِرت مقابلة صحافية معه لم ينفِ القاضي حصولها، الأمر الذي أكّد ما يُنسب إليه.
كل ذلك عزّز الارتياب بالمحقق العدلي الذي كان يجدر به التعامل مع الملف بطريقة أخرى، وأن ينظر بعينٍ واحدة الى جميع من يعتبر أنهم مشتبه فيهم، وأن يحرص على التعامل مع جميع الأطراف بحسن نية درءاً لاتهامه بالحكم المسبق عليهم.
انفعال البيطار لم يخفَ على كل من يراقب إجراءاته القضائية التي لم تُظهر حُسن نية قاضٍ محايد. وإذا استبعدنا مخالفة الدستور في مسألة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، يمكن غضّ الطرف عن التجاوزات المرتكبة من قبل المحقق العدلي إذا كان متيقّناً بأنّ المدّعى عليهم فجّروا المرفأ. لكنّ مبناه القانوني للملاحقة أصلاً ينسب إليهم أنّهم لم يقوموا بما يمنع الانفجار، أي الإهمال. كما أن التسلسل الزمني لحصول الجرم ومسؤوليتهم بين دخول البضائع وتوقّعهم بحصول الانفجار، لا يتناسب مع الإجراءات.
تجاوزات عدة ارتكبها البيطار. لماذا يرفض قاضٍ أن يُعطي الملف للنيابة العامة التي لها حقّ الاطلاع على الملف للنظر في الدفوع الشكلية التي تقدم بها مدّعى عليه، كائناً من كان هذا الأخير؟ طلبت النيابة العامة إحالة الدفوع إليها مع الملف كاملاً لكون المحقق العدلي أحال إليها مذكرة الدفوع الشكلية، لتتمكن من إصدار مطالعتها في الدفوع. غير أنّ المحقق العدلي ارتكب سابقة بإصدار قراره في الدفوع من دون وجود مطالعة من النيابة العامة. ومن دون أن يُعطي مهلة لاستجواب مقدّم الدفوع، أصدر مذكرة توقيف غيابية بحقه في اليوم نفسه. ولم يعبأ بما يتوجب عليه من «حُسن نية في التعامل»، ضارباً عرض الحائط بالضمانة الممنوحة في القانون للمتهم بالدفاع عن نفسه.
انفعال البيطار لم يُخفَ على كلّ من يراقب إجراءاته القضائية التي لم تُظهر حُسن نية قاضٍ محايد


تكررت تجاوزات القاضي للأصول القانونية. على سبيل المثال، رفض وزير الداخلية إبلاغ المدعى عليهم بواسطة قوى الأمن. وبدلاً من الإصرار أو تكرار التبليغ، اعتبر القاضي أنّ هناك تعذّراً بالتبليغ وقرر إبلاغهم لصقاً. ومجدداً، كائناً من كان المدعى عليه، من حقه أن يُبلّغ أصولاً ويُمنح مهلة للحضور، ولا ذنب له ليتحمّل وزر قرار الجهة المطلوب منها إجراء التبليغات.
ارتيابٌ آخر يُسجّل ضد البيطار. فتوقيت الادعاء على المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري كان مشبوهاً. لماذا اختار ليلة التقدم بطلب الرد ضده للادعاء على خوري، مع أنّ المحضر الذي اعتبره جرماً كان موجوداً لديه من اليوم الأول لتولّيه التحقيق. هل يتعامل القاضي بالنكاية أم يُفترض به إراحة الفرقاء ليكون على مسافة واحدة من الجميع. وهذه صفة يجب أن يتحلّى بها قاضي التحقيق الذي يُلزمه القانون بأن يكون محايداً في الإجراءات وإلا لما كانت هناك طلبات ردّ وارتياب تُمنح للمتداعين.
ليس هذا فحسب. في ملف «الشاهد» عماد كشلي الذي استضافه الإعلامي مارسيل غانم، ليقدم رواية عن استئجاره لنقل أكياس من المرفأ إلى جنوب لبنان، لم يتعامل المحقق العدلي مع الأمر كما يجب. لم يوقف كشلي كـ«شاهد زور» مع أنّ المصادر تؤكد استماعه إليه. وإذا لم يعتبره شاهد زور ظهر على الإعلام لتصويب الاتهام على حزب الله في ملف انفجار المرفأ، فما هو الإجراء الذي اتّخذه بحقه؟ وإذا اعتبره شاهداً يُعتدّ بشهادته، لماذا لم يستدعِ مسؤولين من الحزب أو يتوسّع في التحقيق؟!
شمول الاستجواب والادعاء كل من تعاقبوا على المراكز الأمنية والسياسية المسؤولة عن المرفأ كان سيُعفي القاضي من تهمة الاستنسابية. وحياده والتزامه بحُسن سير الإجراءات والأصول القانونية كانا سيكونان في مصلحته وليس ضده، لأنّه عند استنفاد المدعى عليهم الوسائل المتاحة لهم قانوناً للتهرب من التهمة، سيمثلون في النهاية بين يديه وحده ليتّخذ ما يشاء من إجراءات بحقهم. أما التجاوزات التي يرتكبها، فستُفرغ الملف وتفتح مجالاً للطعن فيها وستُسيِّس التحقيق ليضيع الملف في بازار السياسة والشعبوية في الشارع.
لم يقتصر الارتياب على إجراءات المحقق العدلي، بل تعدّاه الأمر إلى فضائح ارتكبها كل من رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي نسيب إيليّا ورئيس محكمة التمييز جانيت حنّا. القاضي إيليّا الذي كان يُحسب على حزب الكتائب سابقاً قبل أن يُحتضن من المطران إلياس عودة سجّل سابقة في تاريخ القضاء. الرجل الذي تقدّم أمامه النواب: علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق بطلب ردّ القاضي بيطار، فصّل قانوناً على قياسه بقراره عدم إبلاغ الخصوم، بحسب ما تُلزمه المادة ١٢٦ من قانون أصول المحاكمات المدنية. وبعدما طلب من طالبي الرد بيان أسماء الخصوم لإبلاغهم في اليوم الأول، سطّر في اليوم الثاني مذكرة إلى المحقق العدلي لبيان أسماء الخصوم في القضية، فلم يأته الجواب. تزامن ذلك مع نزول تظاهرات أمام منزله، ليتّخذ في اليوم الثالث القرار الفضيحة غير المسبوق. فقد اعتبر إيليّا «أنّه بالنظر إلى طبيعة طلب الرد الراهن وتداعياته على غير مستوى»، قرر ردّ الطلب شكلاً لعدم الاختصاص النوعي. كيف يُسمح لقاضٍ بأن يتأثّر بالشارع ليقرر، خشية منه، أن يتجاوز القانون ويلغي أحد الإجراءات الأساسية المتمثلة بالتبليغ من دون أن يتحرّك التفتيش لمحاسبته؟! علماً بأنّه لا يمكنه البتّ أصلاً بالأمور الشكلية قبل إبلاغ الخصوم.
خطأ القاضي إيليا قد يُغفر أمام خطيئة محكمة التمييز المدنية المؤلفة من القاضية جانيت حنّا رئيسة ونويل كرباج وجوزف عجّاقة مستشارين. لقد تجاوزت المحكمة القانون بشكل فاضح معتبرة أنّ إبلاغ الأطراف من شأنه أن يُعرقل حسن سير العدالة لكونه يتسبّب بوقف القاضي عن النظر في القضية. وبالتالي، أباحت هذه المحكمة لنفسها تجاوز الأصول وإلغاء نصّ المادة ١٢٦ من قانون أصول المحاكمات المدنية المتعلق بشرط إبلاغ الخصوم طلب الرد ومنحهم ثلاثة أيام لإبداء ملاحظاتهم. واعتبرت أنّه لا يمكنها سماع القاضي لكونه ليس من قضاة التمييز، وبالتالي لم يعد بالإمكان ردّ القاضي، وهذا مخالف للقانون على اعتبار أنّه لا يوجد قاض لا يمكن ردّه.
قرار محكمة التمييز هذا طرح إشكالية كبيرة تتعلق بتحديد المرجع الصالح للنظر في طلبات الرد. وبالتالي، يُفترض أن تكون هناك دعوى لتحديد المرجع الصالح أمام الغرفة الجزائية في محكمة التمييز، علماً بأنّ وكلاء الدفاع عن النائبين علي حسن خليل وغازي زعيتر عاودوا التقدم بالدعوى نفسها أمام محكمة التمييز، على أن يُحيلها الرئيس سهيل عبود إلى غرفة تمييز يرأسها قاضٍ آخر.