الفطرة هي الفطرة ولا قيد عليها. وسمير جعجع هو سمير جعجع ولا أمل له بالشفاء، لا من أوهامه ولا من غيرها من الأمراض الكثيرة الموروثة أو المكتسبة، والتي تفتك به فتك السرطان بالجسم.سنوات السجن المستحق لم تغيّره، وتجارب العجز السياسي والفشل العسكري لم تعلّمه. وما زال، رغم الحصائل القاتمة لمجمل السيرة السلبية، ملتصقاً بالزيتي الإسرائيلي الذي لم يتخلّ عنه يوماً، ويعامله بحرص مضاعف على معاملته لجلده الأصلي.
وفاؤه الوحيد والنادر هو لهذه الفطرة القاتلة لصاحبها وللآخرين من رفاق «المسيرة» الذين غدر بهم عن سابق تخطيط وتصميم، وأزاحهم واحداً بعد الآخر. فالمنافسة أو التنافس ليست من هواياته. وهو، فوق ما تقدم، ابن بارّ ومخلص لفطرته الأولى التي نالت من طوني فرنجية وداني شمعون... وكيف لا يكون كذلك وهي الفطرة التي صنعته وصنعها وكوّنته وكوّنها. إنها دليل عقله وعماد كيانه ومحرّك أهوائه. فالرجل الذي أتاح له القتل المباشر فرصة التسلّق الاجتماعي والانقلاب السياسي الدوري بقي وفياً له وفاء العاشق لمعشوقه...
قبل عقود، وحين لاحت فرص إنهاء الحرب، وعرف أن ما ينتظره لا يقل عن انتهاء سيطرته المطلقة وتلاشي أحلامه باستمرار دويلته المسوّرة بالدم والدموع، شهر قنابله ومتفجراته، فكانت «سيدة النجاة» جريمة جديدة تضاف إلى السجلّ المثقل بالفشل والخيبات، لكنها، وبخلاف غيرها من الجرائم، قادته إلى السجن. فصحّ فيه القول إنه الذي صنع السجن بأيديه ودخله بأقدامه. ولأن الطبع يغلب التطبّع، والفطرة تغلب المفطور، فإنه وما أن فُتحت أبواب السجن حتى عاود سيرته الأولى التي يعجز عن تصورّ نفسه إلا ملتصقاً بها. ومن يومها وهو يتحيّن الفرص لاستعادة أمجاد السيطرة والاستئثار برقعة من الأرض التي حكمها طيلة سنوات الحرب. لكنه رغم الدأب الذي مارسه لم يحالفه الحظ. فالعالم كان قد تغير، وما كان ممكناً قبل السجن بات مستحيلاً بعده، لكنه، وعلى سبيل التعويض المؤقت، وإرضاء لشهوة السلطة والتسلط التي لا يملك مقاومتهما، أقام «دويلة» معراب كبديل عن ضائع، وكمحطة تسبق العودة واسترجاع ما كان.
أمام هذا الواقع المحكوم بالفطرة يمكن المجادلة في مسؤولية سمير جعجع عن مجزرة الأمس. فالرجل يتحرك ويفكر ويخطط وينفّذ بوحي من فطرته التي لا يملك أمر مقاومتها فكيف بالطلاق معها. وهل هناك من هو قادر على الطلاق مع فطرته خصوصاً متى كانت من النوع الخاص الذي يحوزه هذا المفطور على قتل كل من يعترض سبيله في استعادة ما يعتبره حقاً من الحقوق التي سُلبت منه؟
اليوم، يعيد هذا البائس عقد الرهانات وتجديد الولاءات التي سبق أن قادته إلى السجن. لكنه هذه المرة أيضاً، وبخلاف ما يسمعه من رعاته في عوكر أو من معتمدي الدفع النقدي في المنارة، سيحصد ما يجعله يترحّم على خيبات الماضي غير البعيد. فالدماء المسفوكة في الطيونة كتبت اسم القاتل وعيّنت عنوانه ورسمت ملامحه المطابقة لملامح هذا القاتل.
المجرم صاحب «الأقدام التهجيرية» الذي سبق له بفعل رهاناته الإجرامية وتبعيته الحمقاء الكاملة أن أفرغ مدن الجنوب والجبل وقراهما من سكانها المسيحيين يهدد باستكمال جريمته والمقامرة بمصير من تبقى منهم. وهو في اختياره المخطط والمدروس لعين الرمانة يؤشر على رغبته ومعه مشغلوه بدفع البلد نحو مجهول، أو معلوم دموي مكلف.
سمير جعجع مر من هنا!