يعرف معظم قاطني محيط عين الرمانة والشياح عموماً، أن التوصيف «الأسهل» لإرشاد قاصديهم إلى عناوينهم يكون عادةً عبر تحديد «موقعهم» من «خطوط تماس» الحرب الأهلية، لإدراكهم قوة تأثير تاريخ المتاريس على الذاكرة الجماعية، ومن ضمنها ذاكرة أولئك الذين لم يعايشوا الحرب. هؤلاء الأخيرون، الذين لم يعايشوا الحرب، بقوا بدورهم أسرى ذكريات المكان الملوّنة بالدم، والتي تعكسها «ملامح» المنطقة؛ مِن الرصاصات التي استحالت ندوباً في وجوه مبانٍ قديمة، مروراً بصور «قادة» الحرب المعلّقة في الأزقّة الداخلية، إلى حواجز الجيش التي نُصبت عند «المحاور». والحرص على بقاء الحواجز، رغم سنوات طويلة من «السلم»، هو بالنسبة إلى كثيرين اعترافٌ من «الدولة» باستحالة «الانصهار» بين سكان جانبَي الخط، وتذكيرٌ بضرورة الفصل بينهم لأنّ نية «الاستثمار» في الاشتباك «الدوري» بينهم ثابتة، تماماً كثبوت قادة المحاور.يصعب على «أبو نزار»، الساكن على أطراف عين الرمانة مقابل مدخل شارع أسعد الأسعد، أن يُحصي عدد المرات التي اضطر فيها إلى مغادرة منزله بسبب الاضطرابات الأمنية التي شهدها الشارع في السنوات الأخيرة. آخر خساراته كان قبل نحو سنتين، في إحدى «جولات الانصهار» بين شبان المنطقتين، عندما حُطّمت سيارة ابنته في الشارع من دون أن يعرف من قام بذلك. ففي حالة العالقين في «الوسط»، لا يعود التعرّف إلى المعتدي مهماً، ربما لأن القاطنين هناك، يعلمون «كلفة» أن تكون وسطياً في هذه البلاد.
«أبو نزار»، كغيره من الجيران، يدركون جيداً أن «مَهمة» التعايش المطلوبة منهم لم تكن يوماً سهلة. العيش ثقيل وسط مكان «سريع الاشتعال»، ويزداد ثقلاً في كل مرة يضطر فيها سكان مناطق التماس عموماً، والمناطق الداخلية «المختلطة» خصوصاً، إلى ترك منازلهم ومن ثم العودة إليها بعد هدوء الاضطرابات.
جولات التوتر الكثيرة أوصلت سارة، الشيعية القاطنة في عين الرمانة، إلى «قناعة» بأن حجج «التأقلم» مع «الوحدة الوطنية» تزداد تصدّعاً «في كل مرة نغادر فيها بيوتنا خوفاً من المحيط، ونجد أنفسنا طامحين إلى البحث عن السكن في مناطقنا... كل بروفا حرب تقذفنا إلى أصلنا المذهبي أياً كانت قناعاتنا السياسية».
كلّ بروفا حرب تقذفنا إلى أصلنا المذهبي أياً كانت قناعاتنا السياسية


أول من أمس، قُتلت مريم فرحات في منزلها في الشياح. دفعت ثمن سكنها على مقربة من «الآخرين»، في «منتصف» خط التماس. وكأنّ «الدرس» المطلوب هو الاقتناع بأن التهجير قد يكون أكثر «أمناً» من «المرابطة» في البيوت التي سُكنت في زمن السلم. وهو اقتناع لا يحتاج إلى مزيد من الإقناع. ففي كل مرة يغادر السكان بيوتهم قبل اندلاع الاشتباكات بسبب قدرتهم المتنامية على قراءة التطورات ومآلاتها قبل حدوثها. وحدها العائلات المقيمة في منطقة الطيونة وبدارو «أكلتها» أول من أمس، ربما لاعتقادها بأن هاتين المنطقتين «بعيدتان جداً» عن «المحاور التقليدية».
صباح أمس، عشرات البيوت في الشياح كانت خالية من ساكنيها. شارعا عبد الكريم الخليل وأسعد الأسعد كانا «يتأهبان» لتشييع ضحايا كمين القتل المتعمّد. في «شارع عبد الكريم»، كما يُسمّى اختصاراً، البؤس يعلو الوجوه، ويمتزج الحزن والسخط في كلام كثيرين ممن علقوا في منازلهم وخسروا جيراناً. وفي«الأسعد»، الشارع الأشهر في الشياح، كان الكلّ مشغولاً بمواساة «أبو محمد»، بائع العصير الذي خسر ابنه محمد السيد.
تقول سامية التي تسكن الشارع منذ عشرين عاماً إن إقفال الجيش مداخل عين الرمانة عشية التظاهرة دفع كثيرين من جيرانها إلى إخلاء بيوتهم، «ومن لم يترك بقي عالقاً ساعات طويلة». وتُضيف: «هذا قدر القاطنين هنا، التهجير الدائم».
في 27 تشرين الثاني 2019، نظّمت عشرات الأمهات القاطنات في عين الرمانة والشياح مسيرة انطلقت من محمصة صنين المجاورة لمركز حزب القوات اللبنانية في اتجاه «الأسعد» الذي يُعد أحد «معاقل» حركة أمل، رفضاً لما سمّينه «إعادة لغة المحاور والحرب». يومها، رفعت النسوة شعارات من بينها «انتهت الحرب الأهلية، نريد وحدة وطنية». على مدى عامين، بعد تلك «المسيرة»، وقعت جولات كثيرة من التوتر كانت تُرافَق دائماً بتطويق مناطق «التماس»، وبمغادرة العشرات منازلهم إلى حين عودة الهدوء.
مسيرة الأمهات تلك، على نقاوتها، كانت محطّ سخرية كثيرين لـ«أفلاطونيتها»، ولأنها كمن يرتق جرحاً مستعصياً بالورد. اليوم - إذا ما أريد تكرارها - ستكون موضع تنديد من اليائسين من أيّ تغيير في قواعد اللعبة القديمة في البلاد، وممن باتوا مقتنعين بأن استحضار «عين الرمانة» هو وسيلة حياة هذا النظام وعصبه.