منتصف تشرين الأول الفائت، زار نائب مساعد وزير الخزانة المكلف بشؤون أفريقيا والشرق الأوسط، إريك ماير، بيروت، برفقة نائبة وزير الخارجية الأميركي للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند. إلى جانب لقاءاته مع مسؤولين سياسيين وعسكريين، وشخصيات سياسية غير رسمية، التقى الوفد الأميركي حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. عند الأخير، ناقش مسؤول الخزانة الأميركية عدداً من القضايا التي تُصنَّف في خانة «ذات الاهتمام المشترك». والتعبير الأخير يُستخدم للتغطية على التدخل الأميركي في الشأن اللبناني. إذ لا قضايا مشتركة بين البلدين في بحر الصين الجنوبي على سبيل المثال. المسؤول الحكومي الأميركي سأل عن حسابات النائب جبران باسيل المصرفية، بعد العقوبات التي طاولته. وردّ الحاكم بأنه سيرسل إلى واشنطن تقريراً خطياً تفصيلياً يُثبت أن جميع حسابات باسيل، الدائنة والمدينة، أقفلت، «وهي أصلاً كانت تحوي مبالغ صغيرة جداً»، فضلاً عن أن رئيس التيار الوطني الحر «كان قد سدّد القروض المتوجبة عليه منذ ما قبل شموله بالعقوبات».مسألة حسابات باسيل كانت على الهامش. ما ركّز عليه ماير كان الدولارات النقدية في السوق اللبنانية. في سنوات ما قبل الانهيار، كانت الولايات المتحدة تروّج لـ«الشمول المالي»، أي محاولة جعل كل فرد لديه دَخْل - سواء كان دخْلاً ثابتاً أو غير ثابت - يفتح حساباً في المصارف اللبنانية. وكانت وكالة التنمية الأميركية (USAID) تعلن تمويل مشاريع مشتركة مع بنوك في لبنان، بهدف الترويج للشمول المالي وتشجيع السكان على جعل القطاع المصرفي ممراً إلزامياً لعملياتهم المالية، ولو على مستوى شراء «علكة» من دكان الحي.
أتى الانهيار فأطاح معه كل ثقة الجمهور بالقطاع المصرفي. ومن كانت له وديعة في مصرف، بات يبحث عن «الصرفة» ليهرب من القطاع برمته. هذا الانهيار بدأ بتوقّف المصارف عن العمل، سواء لجهة تسيير التجارة الخارجية والتحويلات إلى الخارج، أو لناحية منع زبائنها من استعادة أموالهم المودعة فيها. هذه الأسباب وغيرها، دفعت بالاقتصاد اللبناني إلى التحول نحو النقد. الغالبية العظمى من السكان يفضّلون تجنّب المصارف ما أمكنهم ذلك. القدر الأكبر من المعاملات بات يُنجَز نقداً. عززت المصارف ذلك بقيود فرضتها على الرواتب «الموطّنة» لديها، وانخفاض «سعر» شيكات الليرة اللبنانية مقابل الليرات النقدية، ورفض غالبية المؤسسات التجارية بطاقات الائتمان على أنواعها.
قبل الأميركيين، كانت عين رياض سلامة، وأصحاب المصارف، على الأموال الموجودة بين أيدي السكان، في خزناتهم أو «تحت البلاطة» أو تلك «المدكوكة في القصبة». ما يريده حاكم مصرف لبنان وأصحاب البنوك ليس أي نقد موجود في المنازل، بل تحديداً الدولارات «الناجية» من جحيم القطاع المصرفي. على مدى سنتين، كان أرباب القطاع يرمون بتقديرات حول كمية الدولارات الموجودة «في البيوت». تارة يقدرونها بتسعة مليارات دولار، وتارة أخرى بسبعة مليارات، وأحياناً يقولون إنها تفوق العشرة مليارات دولار. أصحاب البنوك يريدون تلك الدولارات لأن من يملك العملة الخضراء في زمن الانهيار تتضخّم حصته من الثروة، كما أنه سيكون الأقدر على تحديد ملامح الاقتصاد الجديد الذي سيولد بعد الارتطام.
يُعقد في 16 كانون الأول الجاري اجتماع عن بُعد بين كل المصارف اللبنانية ووزارة الخزانة الأميركية


أما الأميركيون، فلهم مآرب أخرى. «الشمول المالي» هدفه، أميركياً، مراقبة المال، فضلاً عن التحكم به. كل عملية تجارية أو تبادلية تجرى خارج القطاع المصرفي، تعني تقليص قدرة الأميركيين على «التحكم والسيطرة»، وصولاً إلى إمكان خروج تلك العمليات من دائرة النظر الأميركي تماماً. لا يمكن واشنطن معاقبة شخص أو جهة، بصورة مباشرة، إذا كان خارج القطاع المصرفي. ولا يمكنها معرفة جميع عملياته التجارية. لهذا السبب، بحث ماير بأمر «العمليات النقدية» مع سلامة، قبل أن يعقد اجتماعاً مع رباعي جمعية المصارف: رئيسها سليم صفير، نائبه نديم القصار، أمين سرّها وليد روفايل، وأمين صندوقها عبد الرزاق عاشور. في هذا الاجتماع، كرر ماير ما قاله لسلامة عن «خطورة الاستمرار في تحويل الاقتصاد اللبناني إلى اقتصاد نقدي». تحدّث عن ثلاثة أمور في هذا المجال:
1- استمرار تزايد حصة النقد من العمليات التجارية يعني أن المصارف تخفف من «الامتثال للقوانين الأميركية، ولالتزاماتها في هذا المجال». ويؤدي ذلك إلى تعريض علاقة المصارف اللبنانية بمصارف المراسلة (المصارف الأجنبية التي تلعب دور الوسيط بين لبنان والعالم مصرفياً وتجارياً) للخطر.
2- المصارف اللبنانية، ومن خلال عدم تدقيقها بمصادر الأموال التي تدخل إليها نقداً، فإنها تعرّض نفسها لخطر تحوّلها إلى مؤسسات لتبييض أموال جهات تخضع للعقوبات، مثل مؤسسة «القرض الحسن». والجمعية الأخيرة نالت قسطاً وافراً من حديث المسؤول الأميركي، الذي بدا مهجوساً بها. لم تكفِه توضيحات سلامة وجمعية المصارف عن أن «القرص الحسن» لا تعمل بترخيص من مصرف لبنان، بل بموجب ترخيص من وزارة الداخلية كونها جمعية خيرية. وقد طالب ماير بالتشدد في مراقبتها، وبخاصة لجهة التدقيق في أموال بعض رجال الأعمال الذين يمكن أن يشكّلوا «واجهة للقرض الحسن» للنفاذ إلى القطاع المصرفي.
3- طالب ماير المصارف اللبنانية بوجوب التشدد في مراقبة حسابات «الشخصيات المعرّضة سياسياً» (PEPs)، لكي لا تكون البنوك «مساهمة في التغطية على عمليات فساد»، مشدداً على وجوب التدقيق في أموال المتعهدين الذين يعملون مع الدولة اللبنانية.
تلقى المسؤول الأميركي وعوداً بمتابعة نقاط البحث، ونقل فحوى اللقاءات إلى بقية المصارف، علماً بأن مصرفيين يؤكدون بأن رئيس جمعيتهم لم يبذل أي جهد لشرح ما جرى لعموم أصحاب البنوك ومدرائها. وقد جرى التواصل بين جمعية المصارف ووزارة الخزانة الأميركية، وتقرَّر عقد اجتماع «عبر الإنترنت» بين «الخزانة الأميركية وجميع المصارف اللبنانية». ويوم 16 كانون الأول 2021، سيُعقَد هذا «الاجتماع»، عن بُعد، ليكون - على حد وصف شخصية مصرفية - «أشبه بجمعية عمومية للمصارف برئاسة وزارة الخزانة الأميركية».
المصرفيون في لبنان يتعاملون مع «الإرشادات» الأميركية على طريقة «لا نعلم ما الذي يريدونه. فالاقتصاد اليوم قائم على العمليات النقدية. ومن يأتي إلينا بالدولارات، نكون ممتنين له، ولا يمكننا وضع قيود على استقدام الدولار النقدي. إذ لا بديل عن النقد، في ظل واقع بات يحكم عملنا، وهو أن الدولارات الموجودة في المصارف ليست دولارات»! ويستنكر بعض المصرفيين هذه «التوجيهات، خصوصاً أن كل العمليات النقدية محصورة في الداخل اللبناني».