لا يشكل وجود رئيس للحكومة الغطاء الكامل الذي يريده الفريق السني اليوم. لكنه يشكّل الرابط الوحيد الحالي بين هذا الفريق والسلطة من جهة، وبين هذا الفريق ودوره في التركيبة السياسية للنظام الحالي. فبين حركة الثنائي الشيعي الدائمة، وبين استنهاض العهد نفسه ومعه التيار الوطني الحر، عدا عن حركة القوى المسيحية الأخرى، يبدو الطرف السني غائباً عن الواجهة أكثر من أي وقت مضى. وانكفاؤه يكاد يكون، للمرة الأولى، بهذا الحجم، وفي مفترق مصيري يتعلق بمستقبل لبنان ونظامه.من دون استعادة المحطات التي تلت عام 2005، بعد صعود الدور السني في مرحلة الطائف، لم تغب الأطراف السنية إلى هذا الحد، كما يحصل منذ انهيار التسوية الرئاسية وانكفاء الرئيس سعد الحريري. لا بل إن القوى السنية في انقسامها بين 14 آذار والشخصيات السنية الدائرة في فلك 8 آذار، ظلت تشكل لسنوات حضوراً تصاعدياً بين المحورين، ولو كانت الغلبة الأكثرية فيه لفريق المستقبل وحلفائه.
لا يمكن النظر، منذ أشهر قليلة، إلى الواقع السني، من زاوية غياب الحريري فحسب، وإن كان هذا الغياب العامل الأبرز في هذا الانكفاء العام. فتراجع الحضور منذ انهيار التسوية وخروج الحريري من السرايا، كان انعكاساً لتراجعات متتالية منذ سنوات، نتيجة عوامل عدة: انفراط عقد الحلفاء، مسيحيين ومسلمين، ممن كانوا سوياً تحت مظلة 14 آذار، وتضعضع الفريق المحيط بالحريري نفسه مستشارين ونواباً وأقرباء، وعدم خبرة البعض واستخفافه بحجم التوازنات التي يفترض الحفاظ عليها حتى داخل الصف الواحد، وتفلّت شخصيات سنية سياسية ونيابية عنه، وبعضها أصبح في موقع الخصم سياسياً وإعلامياً. يضاف إلى ذلك غياب المظلة العربية المباشرة التي كانت السعودية تؤمنها عادة، وتتجاوب معها دول الخليج الأخرى، وتتقاطع معها مصر وتركيا بدرجات متفاوتة.
وعلى رغم أهمية الكلام عن احتمال انكفاء الحريري كحدث، لا يمكن النظر إلى واقع التراجع السني من الواجهة من هذه الزاوية فحسب، لأن المسؤولية مشتركة بين الصف السني الأول والصف الثاني، ومسؤولين وقيادات أحجموا في السنوات الأخيرة عن القيام بما يمكن من الحفاظ على الموقع، سواء من خلال وقوفهم متفرجين على متغيرات بيت الوسط من دون إبداء أي رد فعل معارض، أو بتماهيهم الكامل مع قرارات خاطئة لم تصبّ في مصلحة فريقهم ولا في الصالح العام، ما ساهم في إحداث حالة اللاتوازن في القرار السنّي ومندرجاته على الساحة السياسية. ولا يمكن للطرف السني أن يتذرع بنفوذ الثنائية الشيعية ودور حزب الله أو القوى المسيحية التي ضربت صلاحيات رئاسة الحكومة كممثلة أعلى للأطراف السنية. إذ إن التفاهم بين قيادات سنية، وليس الحريري وحده، مع الرئيس نبيه بري كان تفاهماً قائماً في ذاته، وانسحب لاحقاً على علاقة بيت الوسط مع حزب الله عبر قنوات الاتصال بينهما. أما اتهام العهد والتيار الوطني الحر بضرب الموقع السني ففيه بعض العبثية، لأن نسج التسويات والصفقات بين الأطراف الثلاثة كان هو الغالب في كثير من الأحيان، إلى حد أن قيادات سنية اعترضت لدى الحريري على أدائه رئيساً لمجلس الوزراء قبل تظاهرات 17 تشرين. ولا يمكن في المقابل تحميل القوات اللبنانية وزر إسقاط الحريري وإضعاف الدور السني، لأن ذلك يعطيها حجماً مضاعفاً، ويقلل من دور الفريق السني نفسه وأخطائه.
لا يمكن قطعاً بناء مشروع وزعامة على عنوان صلاحيات رئاسة الحكومة


واللافت في الآونة الأخيرة، أنه على رغم الاحتمالات المتعلقة بغياب الحريري، لا يزال المكوّن السني على حاله من التراجع عن الحضور السياسي، ولا يغطي ذلك دور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، لأن لتمايزه ووسطيته وعلاقاته خصوصية مختلفة تماماً. كما لا تغطيه محاولة الطرف السني المتمثل بمستويين نادي رؤساء الحكومات السابقين وتيار المستقبل، وفي موازاتهم المجلس الشرعي الإسلامي، الدخول في ملف تحقيق المرفأ من زاوية رفض التعرض لرؤساء الحكومة. فالطرف السني يعيش اليوم حالة تراجع على رغم أنه مقبل على انتخابات، وهذه الانتخابات مصيرية بالنسبة إليه كما إلى المسيحيين. لكن الفوضى الانتخابية لديه عارمة، يوازيها غياب قيادات سنية عن الواجهة لمصلحة أسماء تُطرح يميناً وشمالاً لتقديمها كرافعة للدور السني، وليس بهاء الحريري وحده المعني بما يقدمه من مشروع وضخّ أموال، بل هناك أسماء أخرى مطروحة للتداول باعتبارها الأقدر على إحياء الحيثية السنية. لكن المشكلة في أنه لا يمكن خلق قيادات بين يوم وآخر، علماً أن المستقبل بنسخته الحديثة لم يستطع فرز قيادات وشخصيات بارزة. كما لا يمكن استحداث مشروع سياسي تستعيد فيه الحالة السنية موقعها في أيام قليلة. فما حصل عام 2005، من عودة الحالة السنية إلى تفاهم مع القوى المعارضة الداخلية، تحلل تدريجاً على أبواب التسويات الداخلية. ومن بقي على موقعه المعارض تضاءل دوره تدريجاً. والأكيد أنه لا يمكن استعادة الدور السني على قاعدة الخلاف مع القوى المسيحية وتحميلها وزر ما يحصل، لا سيما أن شخصيات مسيحية لعبت ولا تزال دوراً مدافعاً عن الدور السني وبيت الوسط حتى في أحلك أيام اختلافها معه. ولا يمكن قطعاً بناء مشروع وزعامة على عنوان صلاحيات رئاسة الحكومة. ففي ذلك محاولة لاستنساخ تجربة التسعينيات التي لم تكن مشجعة لأنها حصرت السلطة في يد فريق واحد، وطبّقت الطائف في شكل مختلف عما كتب فيه. والأزمة المصيرية حول النظام وهويته، والانهيار الاقتصادي الكارثي، يحتاجان إلى أكثر من البكاء على أطلال الصلاحيات وحدها.