على خلفية الخروج المتوتر لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي من عين التينة وما سبقه من تسريبات عن «تسوية» لحل الأزمة الحكومية، تراوحت المعلومات بين تأكيد ونفي «الصفقة» التي تتعلق بمصير القاضي طارق البيطار، وفق قاعدة إجراء تغييرات وتشكيلات قضائية جديدة مقابل قبول الطعن المقدم من التيار الوطني الحر بتعديلات قانون الانتخاب. وحتى ليل أمس، تبيّن أن الصفقة الكبرى التي تشمل تغيير رئيس مجلس القضاء الأعلى وقضاة آخرين قد سقطت، ليبقى قائماً احتمال اقتصارها على إسقاط تعديلات قانون الانتخاب مقابل قانون يؤكد أن المحقق العدلي لا يحق له محاكمة الرؤساء والوزراء. «نصف تسوية» تبدأ من المجلس الدستوري اليوم؟
إذا سارت الأمور كما يجري الهمس بها على نطاق ضيق جدّاً، فإن نهاية الأسبوع قد تشهَد بداية حلّ الأزمة الحكومية التي طالت لأكثر من شهر، جرى خلالها تعليق جلسات مجلس الوزراء بفعل الخلاف على ملف التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت ومصير المحقق العدلي القاضي طارق البيطار. وإذ باتَ المخرَج المعدّ لإنهاء الأزمة مرتبطاً بقرار المجلس الدستوري الذي سيصدر اليوم في الطعن المقدّم من تكتل «لبنان القوي» بتعديلات القانون الانتخابي، فإن ملامِح التسوية التي بدأ الكشف عنها ستتبلوَر تباعاً على قاعدة «التنازلات المتبادلة»، الهدف الرئيسي منها البت بقضية البيطار وإعادة تفعيل الحكومة والتغيير في مواقع قضائية، في مقابل إسقاط التعديلات التي أدخلها مجلس النواب على قانون الانتخابات. مع ذلِك، فإن الأبواب ستبقى مفتوحة على تطورات محتملة، بخاصة أن المطروح أكبر من قدرة المعنيين بالتسوية على القبول به لاعتبارات داخلية وخارجية، بدليل إطلاق مواقف في الساعات الأخيرة حاولت التنصّل والتهرب من «التسوية»، بالترويج عبرَ مصادر (كما فعل التيار الوطني الحرّ) أو بشكل مباشر (كما جاء على لسان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الذي خرَج من عين التينة بعد اجتماعه برئيس مجلس النواب نبيه بري بادياً عليه الانزعاج) بأنهما غير معنييْن بما يُحكى.
حتى ليل أمس، ظهر أن التسوية «الكبرى» سقطت. وهذه التسوية كانت تقضي بأن يضمن بري إسقاط تعديلات قانون الانتخابات التي يشكو منها التيار الوطني الحر، وتحديداً لجهة السماح للمغتربين بالاقتراع في الدوائر الانتخابية الـ15 المعتمدة محلياً؛ في مقابل أن يضمن التيار الوطني الحر تأمين النصاب في مجلس النواب لفصل محاكمة الرؤساء والوزراء عن التحقيق العدلي في انفجار المرفأ، وضمان إسقاط رئيس مجلس القضاء الأعلى القاضي سهيل عبود. وأضاف التيار الوطني الحر مطلب إسقاط المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات والمدعي العام المالي القاضي علي إبراهيم. لكن هذا الأمر اصطدم برفض بري المس بالقاضي إبراهيم، في مقابل رفض ميقاتي تغيير عبّود وعويدات. وقد سقطت هذه المقترحات بنفض غالبية المعنيين بها أيديهم منها. إزاء ذلك، بقي من التسوية بندان: إسقاط تعديلات قانون الانتخاب، في مقابل فصل محاكمة الرؤساء والوزراء عن سائر ملف التحقيق في انفجار المرفأ. والاختبار الأول لهذه التسوية يبدأ من المجلس الدستوري اليوم: فهل سيؤمن بري الأصوات اللازمة لقبول طعن التيار الوطني الحر بالتعديلات؟
حتى مساء أمس، كانت أجواء التيار الوطني الحر توحي بإيجابية تجاه القرار الذي سيصدر عن المجلس الدستوري في ما خص الطعن «لا من باب المقايضة السياسية» كما تقول مصادره، بل من ناحية «عدم قدرة الدستوري على القبول بكسر مجلس النواب للمادة57 من الدستور».
حاول ميقاتي الإيحاء بأنه خارج الصفقة التي كانت قيد الإعداد

فما جرى في الجلسة العامة التي ناقشت ردّ رئيس الجمهورية للتعديلات التي أقرها المجلس النيابي على قانون الانتخابات «غير قابل للرد»، كما تشير مصادر التيار، وستشكل سابقة في «ضرب صلاحيات رئيس الجمهورية أولاً وضرب الشراكة ثانياً». على أن قبول المجلس الدستوري الطعن بقرار الرئيس بري الذي اعتبر يومها، عند التصويت على البند الخاص باقتراع المغتربين، أن الغالبية المطلقة في البرلمان هي 59 نائباً لا 65، وذلك عبر احتسابه العدد الفعلي للنواب - مستثنياً المتوفين والمستقيلين - لا العدد القانوني أي 128، سينسحب مباشرة على بقية المواد المطعون بها بحيث لا يعود من داع لمناقشتها. وسيؤدي القبول بالطعن إلى إبطال القانون كاملاً ومعه كل التعديلات التي تمّ الأخذ بها في مجلس النواب. عندها يفترض بالمجلس النيابي أن يجتمع مجدداً للتصويت على التعديلات مرة أخرى أو بالأحرى تلك التي يريد إضفاءها على قانون الانتخاب النافذ 44/2017. أما في حال اتخاذ المجلس الدستوري قراراً سلبياً إما برفض الطعن أو بعدم اتخاذ قرار فعلي أي تصويت 5 أعضاء مع الطعن و5 ضده، فذلك يبقي القانون نافذاً بتعديلاته المقرّة. وبحسب التيار «كل اجتهاد آخر بهذا الشأن أكان لأسباب سياسية أو لمصالح شخصية يعتبر مخالفة صريحة لنص الدستور، وسيكون المجلس الدستوري قد فقد مصداقيته وكتب نهاية دوره بنفسه وأكدّ على تلازم قراراته والإملاءات السياسية بما يطيح أسباب وجوده».
وكانَ لافتاً أن الإيجابية العونية سبقتها أجواء سلبية في نهاية الأسبوع الماضي، وعليه رجحت مصادر مطلعة أن «تسوية ما أدت إلى عدم تدخل برّي بعمل الدستوري مقابل تعامل التيار بليونة في ملف القاضي البيطار، خصوصاً في التجاوزات التي يقوم بها رئيس مجلس القضاء الأعلى، مع الحرص على إبقاء تحقيقات المرفأ جارية بقيادة البيطار. لكن أطر التسوية ستقضي بتحجيم دوره عبر فصل مسار محاسبة الوزراء والنواب عن الباقين وستفتح الباب لحلّ أزمة الحكومة، لا سيما أن كل الأطراف السياسية باتت محرجة وتبحث عن كوة لتنفيس الاحتقان وإعادة تفعيل مجلس الوزراء».
وعلى الرغم من محاولات النفي المتكررة لأكثر من جهة بوجود تسوية ما، أكدت مصادر بارزة أن «هناك مشاورات مكثفة للوصول إلى حلّ، وكل شيء يرتبط بقرار المجلس الدستوري، حيث سيبنى على الشيء مقتضاه. فلا أحد مضموناً، بخاصة أن هناك حفلة تكاذب والكل يقول موقفاً ثم يتراجع عنه». ومع أن العمل على التسوية بدأ منذ الأسبوع الماضي إلا أن الأمور انفجرت بعدَ التسريبات التي تحدثت عن «مقايضة بين قانون الانتخابات وتسوية أمر المحقق العدلي من خلال تغييرات تطاول مواقع قضائية كبيرة تصل إلى رئاسة مجلس القضاء الأعلى». فقد أحدثت هذه التسريبات بلبلة كبيرة في البلد إلى حدّ الحديث عن استقالة ميقاتي، وهو ما نفته مصادره في وقت لاحق، مع تأكيد أن «الرئيس ميقاتي ليس في وارد القبول بتسوية من هذا النوع، إن وجِدت». بينما استغربت مصادر عين التينة ما يقال مؤكّدة أن «الرئيس بري أكد أمام زواره أنه سمِع عن هذه التسوية في الإعلام»، وأنه «خلال اجتماعه بميقاتي سأله إن كانَ على دراية بتسوية من هذا النوع، وهو ما نفاه رئيس الحكومة جملة وتفصيلاً». وعن الطريقة التي خرج بها ميقاتي من عين التينة ردّ برّي بأن «هناك استياء من قلة المسؤولية التي يتعامل بها الإعلام في أزمة استثنائية كالتي يمر بها البلد»، معتبراً أن «هناك جهات حزبية تروّج لمثل هذه الأخبار لأغراض انتخابية».
حصيلة يوم أمس السياسية تراوحت بين تأكيد التسوية ونفيها، بينما تتجه الأنظار اليوم إلى قرار المجلس الدستوري. مع ذلك، جزمت مصادر مطلعة أن التسوية كما هي مطروحة «غير قابلة للتنفيذ عشية الانتخابات النيابية». وفيما جرى التداول بمعلومات عن أن «الرئيس بري لا يزال يرفض التضحية بالقاضي علي إبراهيم»، قالت المصادر إن «ميقاتي والوزير جبران باسيل لا يستطيعان تحمل تبعات السير بمثل هذه التسوية في الشارعين السني والمسيحي، فضلاً عن ما يُمكن أن ينجم عنها من مواقف سلبية خارجية، وهو ما لا يستطيع ميقاتي وحكومته تجاوزه».
وبعد كل المعلومات التي جرى تداولها، أصدر المكتب الإعلامي لرئيس الحكومة بياناً أوضح فيه أن ميقاتي «كرر خلال الاجتماع موقفه المبدئي برفض التدخل في عمل القضاء بأي شكل من الأشكال، أو اعتبار مجلس الوزراء ساحة لتسويات تتناول مباشرة أو بالمواربة التدخل في الشؤون القضائية بالمطلق، كما كرر ميقاتي وجوب أن تكون الحلول المطروحة للإشكالية المتعلقة بموضوع المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء مناطة بأحكام الدستور من دون سواه، من دون أن يقبل استطراداً بأي قرار يستدل منه الالتفاف على عمل المؤسسات».
ولفت البيان إلى أن «ميقاتي أبلغ هذا الموقف إلى فخامة الرئيس ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو موقف لا لبس فيه على الإطلاق. كما أن دولته مستمر في مهامه وفي جهوده لحل قضية استئناف جلسات مجلس الوزراء، وأي موقف لاحق قد يتخذه سيكون مرتبطاً فقط بقناعاته الوطنية والشخصية وتقديره لمسار الأمور».