رُزمة من الملفات تفرِض نفسها على جدول أعمال هذا الأسبوع الذي بات محكوماً بعنوان وحيد، هو عودة ثنائي حزب الله وحركة أمل إلى الحكومة بعدَ ثلاثة أشهر من الغياب. تساؤلات كثيرة أثيرت عن سرّ توقيت هذه العودة، أوحَت بوجود ترابط بينها وبينَ خفض التوتر في المنطقة، مِن اليمن مع الإعلان عن مبادرة إيرانية لوقف إطلاق النار، مروراً بالعراق الذي يشهَد محاولات لتسهيل ولادة حكومة جديدة، وصولاً إلى الإعلان عن استعداد إيران والسعودية لإعادة فتح سفارتيْهما في الرياض وطهران. وفيما يُصعَب الاقتناع بأن هذا التقدير خاطئ، إلا أن أكثر مِن مصدر مطلع، أكدوا بأن لا صلة لكل هذه التطورات بقرار الثنائي.وفيما كانَ سعر صرف الدولار يتراجع في السوق الموازية، «باغَت» الثنائي الساحة السياسية ببيان مُشترك صدَر عن قيادتي حزب الله وأمل يعلن «الموافقة على العودة إلى المشاركة في أعمال مجلس الوزراء من أجل إقرار الموازنة العامة للدولة ومناقشة خطة التعافي الاقتصادي». العودة جاءت مشروطة بحصر جدول أعمال أي جلسة ببنديْ «إقرار الموازنة التي باتَت قابَ قوسيْن من إنجازها في وزارة المال، وخطّة التعافي التي ستنطلِق عملية التفاوض مع صندوق النقد الدولي في شأنها».
غيرَ أن البيان الذي حرِص على إبقاء النزاع في ملف المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار قائماً، مُعتبراً أن على السلطة التنفيذية القيام بواجبها في هذا الأمر، لم يكُن كافياً للإقناع، وتراوَحت التقديرات بينَ «وجود تسوية ما تتعلّق بالبيطار» أو «تراجع تكتيكي للثنائي عن موقفه في ظل انسداد الأفق القضائي والسياسي بشأن المحقق العدلي الذي أمعَن في تسييس ملف التحقيقات». فما الذي حصل؟
قبلَ أيام من البيان، بدأت مشاورات بينَ القيادتين عبر المعاون السياسي للأمين العام لحزب الله الحاج حسين الخليل والمستشار السياسي لرئيس مجلس النواب علي حسن خليل، انتهت بلقاء مساء الجمعة، وبعد مراجعة كل من السيد حسن نصرالله والرئيس نبيه بري، أفضت هذه المراجعة إلى اتخاذ قرار العودة، للرد على تحميل الثنائي مسؤولية التعطيل.
القرار بالعودة لا ينفصل عن مناخات التوتر التي وصلت إلى العلاقة المباشرة بين الحزب والتيار الوطني، خصوصاً أن حزب الله يظهر انزعاجاً من الحملات المباشرة وغير المباشرة التي تنطلق ضده من جانب التيار. وأكدت مصادر مطلعة أن الحزب منزعج من اتهامات النائب جبران باسيل ضد الحزب تحديداً. وسألت: «عندما أصرّ حزب الله على ترشيح العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية ألم يكُن يساعد في بناء الدولة؟»، و«عندما وافقَ حزب الله على تعيين جوزف عون قائداً للجيش، وسهيل عبوّد رئيساً لمجلس القضاء الأعلى وبقية التعيينات التي أصرّ باسيل أن تكون كلها من حصته، هل كان يقف ضد بناء الدولة؟»، و«هل الحزب هو من جدّد لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة بالتوافق مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، وانقلب على لجنة آلية التعيينات المعروفة بآلية (الوزير السابق محمد) فنيش، أم أن باسيل هو من رفضها؟ ليأتي من يقول إن حزب الله يحمي الفاسدين». بكل الأحوال، هذه الخطوة تأتي في إطار «إلقاء الحجة على كل من يتهم الثنائي بتعطيل البلد... فليذهبوا ويصنعوا المعجزات».
وفيما أكدت مصادر مطلعة أن «الثنائي لم يُعلم أحداً بقراره»، رحّب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالعودة، علماً أنه كانَ مستفيداً من المقاطعة، إذ بحسب معلومات «الأخبار» سبقَ أن أبلغَ رئيس الحكومة جهات سياسية بأنه «ليسَ في وارد إهداء عون ورقة التعيينات قبلَ الانتخابات النيابية». لكن من يضمن أن لا يُطرح أمر إقالة حاكِم مصرف لبنان رياض سلامة على طاولة مجلس الوزراء من باب ارتباطه بالمالية العامة؟ هذا ما لا يُمكن الجزم به، في انتظار عقد الجلسة التي سيدعو إليها ميقاتي بعدَ الانتهاء من مشروع الموازنة، وهو أمر قد لا يحصل قبل نهاية هذا الشهر.

ملف البيطار
تبقى مشكلة المحقق العدلي الذي اعتبره البعض، تحديداً خصوم حزب الله، «المُنتصر» مقابل تراجع الفريق الآخر. لكن البيطار، عملياً، كُفَّت يده عن ملف التحقيقات بسبب تعليق الدعاوى المقدمة ضده أو ضد قضاة ينظرون في هذه الدعاوى، ومن المؤكّد أن عودة البيطار لن تكون قريبة، خصوصاً بعدما فقدت الهيئة العامة لمحكمة التمييز نصابها في ظل تعذّر تعيين قضاة تمييز أصيلين، فيما هناك دعاوى أخرى يجري التحضير لها لتقديمها إلى محاكم التمييز. وفي هذا الإطار، حصلَ تطوّر جديد تمثّل، بحسب معلومات «الأخبار»، في طلب ميقاتي سراً من بعض الجهات التنسيق مع أهالي شهداء المرفأ لتقديم دعاوى جديدة ضد المحقق العدلي بسبب «استنسابيته»، علماً أن رئيس الحكومة يؤكّد دائماً في العلن أنه ضد التدخل في القضاء.

الجلسة وجدول الأعمال
من جهتها، أشارت مصادر قريبة من السراي إلى أن ميقاتي ينتظر للدعوة إلى عقد جلسة حكومية أن يتبلغ من وزير المال يوسف خليل الانتهاء من إعداد مشروع الموازنة، وهو ما يفترض أن ينجزه خلال عشرة أيام. على أن الموازنة لن تكون بنداً وحيداً على جدول الأعمال، ولا خطة التعافي المالي التي تعد الموازنة جزءاً منها، إذ تلفت المصادر إلى أن هناك بنوداً ملحة لا تحتمل التأجيل، كإقرار مراسيم المنحة الاجتماعية وبدل النقل وتجديد عقود المتعاقدين. وهي بنود «لا تتعارض مع الحدود التي رسمها ثنائي أمل - حزب الله في البيان الصادر عنهما، ولا يمكن رفضها لأنها تعنى مباشرة بأوضاع الموظفين. وفي إطار التحضير للانتخابات النيابية، بات لزاماً أيضاً تعيين هيئة للإشراف على الانتخابات ولحظ اعتمادات لها.
البيطار سيظلّ مكفوف اليدين حتى الانتخابات وميقاتي شجع أهالي شهداء المرفأ على تقديم دعاوى ضد المحقق العدلي


مصادر التيار الوطني الحر لفتت إلى أن أداء الرئيس ميشال عون المواكب لوجهة التيار شكل ضغطاً على حزب الله ودفعه إلى مراجعة حساباته، لا سيما أن علاقة الحزب مع رئيس الجمهورية والتيار اتخذت منحى سلبياً في الأشهر الأخيرة. فقيادة التيار كانت قد تلقت وعداً من الحزب بأن تعاود الحكومة عملها في الأيام الأولى من العام الجاري، إلا أن ذلك لم يتحقق، الأمر الذي اضطر رئيس التيار جبران باسيل إلى التصعيد في وجه الحزب، بالتزامن مع رفض رئيس الجمهورية توقيع أي موافقات استثنائية حتى لو كانت تعنى بأوضاع موظفي القطاع العام للضغط من أجل عقد جلسة حكومية لإقرارها.
ولفتت مصادر التيار إلى أن الرئيس عون وقف في وجه عرقلة سعد الحريري المتعمدة لتشكيل الحكومة سابقاً، وعمل على تشكيل حكومة بجدول أعمال متفق عليه مسبقاً من إقرار خطة التعافي المالي إلى مفاوضة صندوق النقد إلى العمل على إقرار الإصلاحات لإنجازها في نهاية عهده، لا للدخول في عرقلة متعمدة مشابهة للأشهر التسعة التي فرضها تكليف الحريري. لذلك، حصلت مفاوضات مع حزب الله في هذا الشأن، مقترنة بتحولات محلية وخارجية حمّلت الحزب مسؤولية تعطيل عمل المؤسسات وعدم البت بالملفات الملحة، فكان من الضروري إعادة الحكومة إلى الحياة، خصوصاً أن عمل المحقق العدلي في جريمة انفجار المرفأ تعطّل عملياً ولا حاجة إلى قرارات خاصة كالتي كانت مقترحة من الثنائي.



الموازنة: مشكلة النفقات وأسعار الدولار
يتطلّب إقرار الموازنة بتّ مجموعة مسائل أساسية تتعلق بالنفقات والإيرادات وانعكاس مختلف بنودها على عجز الموازنة واستدامة الدين العام. فعلى ضفّة النفقات، هناك الرواتب والأجور ونفقات خدمة الدين العام، إضافة إلى النفقات الاستثمارية إذا وجدت. السؤال الأبرز في هذا المجال، يتعلق بتصحيح الرواتب والأجور وأكلافها، وأيّ مستوى للأجور يفترض أن تقرّه الموازنة؟
بالنسبة إلى نفقات خدمة الدين العام، تكمن المشكلة في النفقات المتعلقة بخدمة الدين بالدولار المتوقف دفعه، وهذا أمر لا يمكن بتّه إلا بعد إعادة هيكلة الدين العام ومعرفة مصير الاقتراض من صندوق النقد الدولي ومن سائر المقرضين الدوليين، بعد توضيح حجم خدمة الدين العام بالدولار والدفعات السنوية التي ستترتّب على الخزينة. كذلك بالنسبة إلى أكلاف الصيانة والتشغيل التي ارتفعت كلفتها انسجاماً مع ارتفاع سعر صرف الدولار تجاه الليرة. إضافة الى النفقات الاستثمارية (إن وجدت)، إذ ستكون مكلفة على الخزينة عدا عن مشكلة البحث عن مصادر لتمويلها، وهذا بدوره يزيد أعباء الدين العام.
على ضفّة الإيرادات، تتعلق المشكلة الأساسية بالسياسات الضريبية التي يجب إرساؤها في الفترة المقبلة، وبتسعير الدولار الجمركي، وأيّ ضرائب ستفرض على أيّ شرائح، وما ستكون علاقة الدولار الجمركي بالبحث عن إيرادات لتغطية النفقات الإضافية، ولا سيما الرواتب والأجور. وبما أن الدولار الجمركي هو بمثابة ضريبة على الاستيراد، أي على الاستهلاك المستورد، ماذا ستكون نتائج رفع سعره على الاستهلاك، وكيف ستكون أعباؤه على المجتمع والاقتصاد؟
كذلك يجب بتّ تعرفات الاتصالات والكهرباء وسائر الإيرادات التي تصنّف كلفتها أو الجزء الأكبر من كلفتها بالدولار النقدي. وإذا لم تكن هذه الضرائب كافية لتغطية النفقات، وتبيّن وجود عجز كبير في الموازنة نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي أكثر مما يمكن أن يقبل به صندوق النقد الدولي، ما هي الخيارات التي ستطرحها الموازنة؟ هل هناك اقتراحات برفع ضريبة القيمة المضافة أيضاً؟ هل هناك قرار بفرض ضرائب جديدة؟
وبحسب مصادر معنية، فإن وزير المالية يوسف الخليل يعمل مع فريقه في الوزارة على وضع التصور الأساسي، والنقاش العالق بينه وبين رئيس الحكومة نجيب ميقاتي وبعض المعنيين يتركز أساساً على أي سعر للدولار سيتم احتساب الأرقام، وسط توقعات بأن يكون هناك في الموازنة نفسها أكثر من سعر للدولار، مع سعي لتقليص عدد أسعار الصرف.


أسعار الدولار: استنسابية أم قوة للمصرف المركزي؟


انشغل اللبنانيون بتراجع سعر الدولار بنسبة تصل الى 25 بالمئة خلال أيام قليلة، إذ جرى التداول به في السوق السوداء أمس بين 23 و24 ألف ليرة مقابل 33 ألفاً قبل أيام. حصل ذلك بعد تدخل المصرف المركزي وإصداره تعاميم جديدة، علماً بأن الجميع تصرّفوا أمس على أن قرار ثنائي أمل وحزب الله بالعودة الى الحكومة كان له انعكاسه على السعر في السوق السوداء.
ومع انخفاض سعر الدولار في السوق الحرّة، بات من الضروري النظر إلى الخطوات المستقبلية المرتقبة بشأن سعر الصرف. وبما أن أحد أهم أسباب العودة عن المقاطعة يتعلق بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، فإن المسألة الأساسية التي تُثار في هذا الإطار تتعلق بتوحيد سعر الصرف واتخاذ قرار بشأن إبقائه عائماً أو تثبيته. هذا الأمر يمكن أن يكون مدرجاً في الموازنة كسيناريو لانعكاسات قرار كهذا على الخزينة وعلى الاقتصاد، ويمكن أن يُبتّ في جلسات مجلس الوزراء بشكل جانبي، على أن يؤخذ في الاعتبار ضمن أرقام الموازنة.
ولا يتوقع من الحكومة أن تحدّد سياستها تجاه سعر الصرف الآن. لكن انخفاض السعر بهذه الحدّة ينعكس مباشرة على مجموعة أكلاف في الموازنة وخارجها أيضاً. فعلى سبيل المثال، يجب أن يظهر الانعكاس المباشر لسعر الصرف سريعاً في أسعار المحروقات من بنزين ومازوت، كما يفترض أن يظهر في مبيعات السوبرماركت وفي أسعار السلع والخدمات المسعّرة بالدولار. وهذا الأمر يتطلب أن يكون هناك نوع من الاستقرار في سعر الصرف لفترة زمنية تؤكد أن ما حصل في السوق ليس تقلّباً عابراً، بل يمكن البناء على هذه التطورات لإبقاء السعر في إطار هامش تحدّده خطّة واضحة للتعامل مع الخسائر وتوزيعها وإعادة إطلاق الاقتصاد مجدداً.
صحيح أن هناك شكوكاً كثيرة في شأن احتمال الوصول إلى نوع من الاستقرار في سعر الصرف الآن أو حتى في فترة زمنية قريبة تتضمن انطلاق المفاوضات مع الصندوق، لكن هذا لا يلغي حقيقة أنه كان بإمكان مصرف لبنان التدخّل سابقاً وإبقاء السعر ضمن هوامش معينة. لكن الحقيقة أن المصرف اشترى من السوق كميات كبيرة من الدولارات دفعت السعر إلى الارتفاع ليضخّ بعض هذه الكميات بطريقة دراماتيكية توقف ارتفاع السعر وتخفضه.
لكن ما هو السعر المستهدف؟ على أيّ رؤية تستند السياسة النقدية في هذا الخفض؟
ليست هناك إجابة واضحة حتى الآن، لكن المعطيات الأساسية تفيد بأن تدخل مصرف لبنان بائعاً للدولار الورقي في السوق وبواسطة المصارف ومنها للزبائن، سيخدم قوى السلطة في مرحلة ما قبل الانتخابات النيابية وربما يكون مقدمة لضرائب جديدة في مشروع موازنة 2022.