«لا يُعرف عدد الذين احتُجزوا في ذلك السجن على مرّ السنوات، ولا تُعرف هوياتهم أو من أين أتوا...». داخل تلك المنشأة السرّية قصص تعذيب لم تصدأ بعد. لقد قيل لهم: «أنتم في قبر، أنتم خارج إسرائيل» لتعميق شعورهم بالعزلة والاستسلام. بغطاء من الجيش الإسرائيلي، حظي السجن المُسمى بـ«المنشأة 1391» بسرّية تامة. طُليت جدران السجون الإفرادية باللون الأسود، وهُشّمت منعاً من الاستلقاء عليها للراحة، فكانت صورة جليّة عن وجه الاحتلال. تلك جدران لا تزال تدّخر أساليب تعذيب لا تخطر على بال إنسان. غرفٌ لا نوافذ لها، لم يعرف المعتقلون ليلهم من نهارهم، ولا عدد الأيام التي يقضونها، باستثناء أصوات الغربان، التي كانت، أحياناً، تنذرهم سرّاً ببزوغ فجر مشؤوم. لا ثياب، لا مراحيض، ولا ما يقيهم برد الشتاء. النوم ممنوع. كان القرع على أبواب الزنزانة ليلاً تفريغ حقد لا بدّ منه، بالضرب أو الصراخ. المهم ألّا تغفو عين أسير.
ساهم في كشف السجن الذي عُدّ آنذاك أكثر المعتقلات سرّية في فلسطين المحتلة، الأسيران المحرّران مصطفى الديراني والشيخ عبد الكريم عبيد. كانت منشأة داخل ثكنة عسكرية كبيرة، في بلدة أم القطوف في الخضيرة، وهي مخصّصة للأسرى من خارج فلسطين المحتلة. أُجبر الجنود الإسرائيليون الذين كانوا يدخلونه على توقيع تعهّد بعدم قول أي معلومة عمّا رأوه في الداخل. اجتمع الديراني وعبيد بعد سنة ونصف سنة من الاعتقال، أي في تشرين الأول من عام 1995. عندما كانا يخرجان، كلّ بمفرده، إلى «ساعة الشمس» في ساحة صغيرة مسقوفة بالحديد، تحوطها مراقبة من كل جانب.

رأى الديراني معطفاً معلّقاً على أحد الأعمدة، والتفت إلى جانبه لشتلة نعنع وبصل نبتتا بين تناهيد التراب. فهم الديراني أن من زرعهما رجل يحمل يقيناً بالنصر، مدّته به المقاومة ذاتها التي يعرفها ويؤمن بها. حاول اكتشاف هويّة الأسير، شريكه في الجدران السوداء، فقام بجمع حجارة صغيرة (حصى) وترتبيها بشكل خاص في إحدى زوايا الباحة، كإشارة له. بعد أيام، حصل ما كان منتظراً. تبدّل ترتيب الحجارة، كان هذا أول تواصل للديراني مع صاحب المعطف.
تكرّرت الحادثة عدّة مرّات، إلى أن وجد الديراني رسالة خلف الحجارة. قرأها ثم قام بتلفها. كان ذلك الشيخ عبد الكريم عبيد، الذي عرّف فيها عن نفسه، وسأل إن كان واضع الحجارة (أي الديراني) يعلم أي شيء عن عائلته. ردّ الأخير عليه، وبدأت المراسلات بين الطرفين. ترك الشيخ للديراني سبحة وبعض الأدعية. تحدّثا بأمور خاصة، بعيداً من السياسة والمقاومة، عبر رسائل غُلّفت بمحارم بيضاء.

ذات يوم، لاحظ الديراني أن لون محرمة الرسالة مختلف. كان داكناً أكثر من العادة. أدرك أنه كُشف أمر مراسلتهما للعدو. كتب للشيخ محذّراً: «الجاجات فاتوا عالخط». لكنّ الشيخ لم يصدّق: «لا أظن». الديراني، وعلى الرغم من ذلك، استمر في كتابة الرسائل بحذرٍ تام، وطلب من الشيخ، في حال اكتشف أمرهما، أن يقول إن الديراني هو من بادر إلى الإرسال لطلب الإذن في قطف النعنع، فيحمل العقوبة عنه. كان الديراني على حقّ. خانت الأمطار درع الرسائل. بلّلتها فعرّت حبرها. يومذاك، جنّ جنون الضباط. قال أحدهم للأسيرين: «لا تعتقدوا أنه بإمكانكم أن تخدعونا، نعلم بمراسلتكما منذ البداية». لكنّ الديراني وعبيد فعلا ذلك رغم المراقبة الشديدة والإمكانات المعدومة. عزم الديراني على إحراج ضابط «بيت العنكبوت»، فسأله عن الرسالة الأولى ومضمونها، لكنّ الأخير ارتبك، مجيباً برسالة تبيّن بحسب مضمونها أنها أتت بعد فترة من التواصل. على الإثر، نال الأسيران عقوبة وقيل لهما: «كنا نريد جمعكما لكن الآن لا تحلما في ذلك».

عاش عبيد والديراني فترة تعذيب قاسية، وصلت إلى حدّ الإجبار على أكل قشور الفواكه وبقايا الطعام. اضطرا لقراءة القرآن، الذي حصلا عليه بعد أشهر، بسرعة قصوى، خوفاً من إعادة سحبه من بين أيديهما. بعد المطالبات الحثيثة، أتى الجيش الإسرائيلي إليهما ببعض الصحف التي مرّ عليها الزمن، وكاسيتات تتضمن أخباراً رياضية ونشرات الطقس. أخبار لا فائدة منها في ذاك المكان المظلم. أراد العدو منع أي تواصل للأسرى، حتى معنوي، مع المقاومة. بعد عملية أنصارية البطولية ونتيجة ضغط المفاوضات، أُجبر الاحتلال مُكرهاً على إحضار تلفاز للأسرى عام 1998 بعد توقيف قناة «المنار» فيه، ثم كتب. لكنّ الشوق لتتبّع أخبار المقاومة دفع بأحد الشبّان إلى اللعب في أسلاك التلفاز، فوصل إلى القناة بشكل ضعيف، حيث تمكّن الأسرى خلسة من سماع بعض خطابات السيد حسن نصرالله.
رسم تشبيهي للمنشأة()


كان الضغط النفسي الذي مارسه العدو طيلة سنوات كبيراً جداً، منذ لحظة اعتقال الديراني إلى آخر يوم قبل التحرير في أواخر كانون الثاني 2004. أباح الأمن الإسرائيلي لنفسه كل شيء بهدف انتزاع الاعترافات، واعتمد على الضغط النفسي في التحقيق أكثر من المعلومات الجذرية. ليلة اعتقاله، بدأ التحقيق مع الديراني في منزله. قيّدوا عائلته، وهدّدوه بقتل نجله الأكبر علي واضعين السلاح في رأسه. لكنّ إجابته كانت صادمة لهم: «اقتلوه». يومذاك، سرق المسؤول عن اختطاف الديراني من منزله قطعة سلاح وأشياء أخرى، وأنكر ذلك، إلا أنهم وجدوها مهترئة في مكتبه، بعد مقتله في عملية للمقاومة في بلدة العلّيق إبان عدوان تموز 2006، أي بعد 25 سنة من عملية الاختطاف. «كائنات» تتنفّس وتحيا على السرقة.
لم يفهم العدو عقيدة الشهادة لدى المقاومين يوماً، فكرّر فعلته عام 1997 عند استشهاد نجل الأمين العام لحزب الله، الشهيد هادي نصرالله. قال الضباط للأسرى: «قتلنا ابن السيد. انتهى أمر المقاومة». رغم الضغوط الكبيرة والتعذيب الذي أوصله إلى مرحلة لم يستطع فيها إكمال قراءة سورة الفاتحة، لم يجبهم الديراني على شيء.

عام 2008، وفي تقرير لصحيفة «معاريف» العبرية، أدلى عناصر من سريّة هيئة الأركان (ماتكال) بشهادات عن ليلة اختطاف الديراني وأشهر التدريب قبلها. كان واضحاً أن الديراني لم ينكسر أمام تهديدات أفراد الوحدة الأكثر نخبوية في الجيش الإسرائيلي، الذين حاولوا الحصول على معلومات عن الطيّار الإسرائيلي المفقود رون أراد، أو أي معلومة عن المقاومة، لكنهم فشلوا باعتراف المحامي الإسرائيلي الذي كلّف نفسه الدفاع عن الأسيرين.

قبل الاعتقال، تعرّض الديراني لمحاولات اغتيال عدّة، وقاسى الأضاليل والمعلومات الخاطئة التي كان ينقلها العملاء إلى جيش الاحتلال، الذين كانت لهم المساهمة الأبرز في اختطافه. تمّ اكتشاف السجن السرّي عام 2003، قبل تحرير الأسيرين بعام واحد. عند عودته إلى منزله في الضاحية الجنوبية، طلب الديراني من أفراد عائلته، بمن فيهم علي الذي لم يجرؤ العدو على قتله، اعتباره غير موجود لشهر كامل. كان يريد أن يمعن النظر فيهم لأيام، وأن يتفحّص وجوههم التي غيّرتها السنوات العشر في الاعتقال، قبل أن يعود إلى حياة جديدة، مع كل ما تحمله ذاكرته من ظلمة ذلك السجن المظلم وقسوته.