المعترضون على الأداء السياسي الداخلي لحزب الله، يكرّرون لازمة أن قيادة الحزب لا تسمع إلا وجهة نظر واحدة، وتركّز نقاشاتها مع الحلفاء أو الأصدقاء المقربين فقط، وأن معطياتها حول الخصوم أو المنتقدين تستقيها من المقرّبين أنفسهم. وفي نهاية كل نقاش، يلجأ المحتجّون إلى سردية مفادها: حزب الله لا يثق إلا بمن يعملون معه، ويضيق صدره إزاء كل وجهة نظر تختلف معه في تشخيص الأزمة أو علاجها.في زمن الانتخابات النيابية تصبح الاعتراضات أكبر. فالأمر لا يقتصر على آراء أو أفكار، بل يتحول إلى برامج وأدوات عمل ومرشحين. وهؤلاء ينبتون فجأة ليصيروا جيشاً كبيراً ينتشر في كل الأمكنة. ولأن أغلبهم لا يملكون كامل العدة للوصول إلى موقع القرار، لا يجدون غير حزب الله يتوجهون إليه، طالبين الدعم أو رافعين الاعتراض، ناهيك عن منطق الابتزاز الضمني لدى كثيرين ممن يعتبرون أن المقاومة تحتاجهم، بالتالي عليها مقايضتهم بما لا يقلّ عن... مقعد نيابي!
قيل كلام كثير ونسبت مواقف وتحليلات وتقييمات إلى قيادة الحزب حول طريقة التعامل مع الملف الانتخابي. وبمعزل عن حقيقة الأمر أو دقته، لم يسمع الجمهور من قيادة الحزب أو قادته كلاماً يعكس حصول مراجعة شاملة. بل إن المسار الذي سلكته الترشيحات النيابية من جهة، والتحالفات من جهة أخرى، تشير إلى أن الحزب إما أنه أجرى تقييماً وجد بعده أن لا مبرر لتغيير جوهري، وإما أنه لم يشعر بضرورة - أو حتى بجدوى - هذه المراجعة. في الحالتين، انتقل الحزب سريعاً إلى مربع العمل على تنظيم الصفوف.
دوّت صفارات الإنذار. أُعيد تحريك الماكينة الحزبية على مختلف المستويات. نشاط كبير للفرق المتخصصة في الإحصاءات والتدقيق في لوائح الناخبين ومناطق انتشارهم وطريقة الوصول إليهم، مع عمل إضافي على ماكينات الحلفاء لرصد جاهزيتها وفعاليتها، ولتحديد حاجاتها من الدعم الذي ما من أحد يوفّره غير حزب الله. وهو ليس دعماً مادياً فحسب كما يعتقد كثيرون، بل يتضمّن أشكالاً أخرى تتعلق بتنظيم العملية لوجستياً ومعلوماتياً وإدارياً. كما يلجأ الحزب مرة جديدة إلى الأصوات الحزبية أو الحليفة أو الصديقة لإطلاق أوسع عملية تعبئة وتحشيد للجمهور اللصيق أو الداعم لتأمين مشاركة أكبر في يوم الاقتراع. وفي هذه الحالة، لا يوفر الحزب سلاحاً. وهنا، يظهر الدور المركزي لأمينه العام السيد حسن نصرالله الذي سيعزز حضوره الإعلامي وخطبه في الفترة الفاصلة عن موعد الانتخابات، لما له من تأثير عند الجمهور، بمن فيه المعترضون على الحزب الذين يمنحون الرجل هامشاً من السماح هدفه الفعلي توسيع هامش المناورة عند المعترضين أنفسهم للعودة إلى التزام خيار دعم المقاومة!
تشخيص حزب الله بأن هدف خصومه من المعركة الانتخابية ليس تحصيل مقاعد نيابية فحسب، بل تعديل صورة التمثيل السياسي لتعديل واقع السلطات التنفيذية والتشريعية كافة، وصولاً إلى إطلاق معركة رئاسية مبكرة ربطاً بنتائج الانتخابات النيابية. وهذا ما يفرض على الحزب آليات عمل منها:
أولاً: تنظيم فوضى الترشيحات النيابية، وهي عملية استوجبت تدخل السيد نصرالله شخصياً، فاستقبل الشهر الماضي عدداً كبيراً من الشخصيات، سواء من مرشحين أو ناخبين كبار، ونجح في ترحيل الخلافات إلى ما بعد الانتخابات، مع وعد بإطلاق ورشة إعادة تنظيم العلاقات مع الحلفاء والأصدقاء. وبالطبع، لم تكن الحصيلة كلها كما يشتهيها الحزب، إذ برزت ندوب في بعض الأمكنة وإن كانت من النوع القابل للعلاج.
ثانياً: السعي إلى تنظيم التحالفات داخل الفريق الواحد لأن الخصوم إنما يستهدفون الجميع سياسياً ولو بأساليب مختلفة، ما يفرض التفاهم على آليات لتحالفات انتخابية لا تحتاج إلى تنازلات سياسية كبيرة. وقد استفاد الحزب في هذا السياق من فترة هدوء عند بعض الحلفاء الذين تصرفوا بواقعية حيال ما يمكن تحقيقه.
ثالثاً: محاولة خلق مناخ إيجابي بين كل حلفاء الحزب على قاعدة أن طبيعة المعركة تستوجب من الجميع القبول بدور الحزب كمرجعية تنسيقية بينهم، ما يتيح له الضغط هنا والتنازل هناك، حتى تأمنت التحالفات التي قامت على شكل لوائح في غالبية الدوائر.
رابعاً: إعادة تعويم صورة اللقاء السياسي بين جميع الحلفاء، الأمر الذي يستهدف رفع المعنويات لدى قواعد الفريق ككل، وهو أمر ضروري لضمان زيادة نسبة التصويت. إذ إن الخشية كبيرة من تراجع نسبة المقترعين في صفوف حلفاء حزب الله ما يسمح للخصوم بتحقيق اختراقات غير محمودة.
العقل الذي يدير المعركة الانتخابية في حزب الله لا يقيم وزناً أكبر من حجمه لمتغيرات السنوات الثلاث الأخيرة من دون تجاهلها


خامساً: السعي إلى حصر النقاش في بند واحد وهو الفوز بالانتخابات النيابية كفريق كبير، وتركيز الحملات السياسية والانتخابية ضد الخصوم، وعدم الوقوع تحت تأثير حملاتهم.
خلاصة الجولة الأولى من هذا البرنامج تبدو إيجابية لدى قيادة حزب الله، باعتبار أن الهواجس التي رافقت مرحلة الترشيحات كانت مقلقة ولو بحدود، لكن «اللملمة» كانت ممكنة ووفّرت مناخاً يساعد على الانخراط في المرحلة الثانية الخاصة بتعبئة الشارع ليوم الاقتراع. وسيدخل الحزب وجميع حلفائه في المرحلة الثانية التي تركز على حشد الأصوات. والسؤال هنا هو حول طبيعة الخطاب السياسي الذي ينجح في تحفيز الناس، خصوصاً المترددين منهم، للاقتراع في 15 أيار المقبل.
لكن، هل هذا يكفي؟
واضح أن من لديه ملاحظات أو تصورات بديلة عن كل ما يحصل، لم يلتقط الإشارة الأبرز الصادرة عن عقل حزب الله، وهي أن الحزب لا يرى تبدلاً في عناوين معركة العام 2022 عن عناوين معركة العام 2018. وهذا يقود، ببساطة، إلى استنتاج واضح بأن العقل الذي يدير هذه العملية، لا يقيم وزناً أكبر من حجمه - لا يتجاهل لكنه غير مقتنع بتوصيف الآخرين - لمتغيرات السنوات الثلاث الأخيرة، خصوصاً حجم الانزياح الذي قام بعد حراك 17 تشرين عن فريق حزب الله وحلفائه. إذ إن هناك افتراضات مخالفة لما تم الترويج له من قبل الخصوم. بل إن دراسات واستطلاعات أجريت من الفريق المناهض لحزب الله وحلفائه، لا تعطي رافعي لواء التغيير مكانة تجعل حزب الله وحلفاءه في حالة قلق. بل على العكس من ذلك، فإن من يراقب سلوك القوى والمجموعات والشخصيات التي تقدم نفسها ناطقة باسم حراك 17 تشرين، لا يجد من عناصر القوة ما يكفي لقلب الطاولة. وربما هذا هو السبب الرئيسي في القلق والخيبة لدى الأميركيين على وجه الخصوص، ولو أنهم لن يتوقفوا - كما حلفاؤهم في الغرب أو الخليج - عن دعم كل خصوم المقاومة حتى بعد الانتخابات.
عملياً، ليست هناك إشارة تعكس قناعة لدى حزب الله بضرورة إحداث تغيير في مقاربة الملف السياسي الداخلي. وهذا أمر مقلق في حال كان الحزب يراهن، من جديد، على أن فوز الفريق الذي يدعمه في الانتخابات من شأنه فتح الباب أمام تغييرات نوعية على صعيد إدارة البلاد... لأن ما يحصل لا يعدو كونه محاولة لتثبيت الوقائع اللبنانية على حالها، في انتظار فرج لا نعرف من أين ومتى يأتي... عملياً، حزب الله يلملم الصفوف. وكل كلام آخر، هو كلام بكلام!