لا حدود للتضليل السياسي والإعلامي الغربي. وكما في العالم الغارق في أتون التضليل كذلك في لبنان. ففي العالم (الواسع) وتحت ذرائع واهية وأضاليل مزعومة (الدفاع عن أوكرانيا ضد «الغزو» الروسي وغيرها الكثير من الأكاذيب الباطلة) نشهد عدواناً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً ورياضياً... غربياً ضد روسيا، هدفه وقف تراجع هيمنة ضواري العالم وكواسره الغربيين وتأبيد إمساكهم بالمصائر والثروات، ولو كلّف الأمر حرباً نووية لن تبقي ولن تذر. أما في لبنان، ومع اقترابنا من 15 أيار موعد الانتخابات، فقد ارتفع منسوب التضليل المدروس والكذب الممنهج، وسجّل مستويات قياسية مرشحة للتصاعد. وإذا حيّدنا ألاعيب السلطات السياسية والدينية وأدواتها المباشرة، فإن التضليل الذي تمارسه قوى وشخصيات ما يسمى بـ«التغييريين» وهم، في الواقع والملموس، «ماريونيت» وشراذم مأجورة ومرتزقة فاشلون، بل وفرع أصيل من فروع السلطة التقليدية المتممة لسلطة المصارف والسفارات، يكشف حقيقة هذه القوى وأهدافها فضلاً عن نوع ارتباطاتها العابرة لهموم البلد وقضايا أبنائه واستعدادها لحرق البلد في سبيل الحفاظ على السلطة ومواقعها المتوارثة فيه.طبعاً، لا حاجة لتفنيد أشكال التضليل الممارس ولا كشف أساليبه الملتوية. فمبالغات أصحابه تفضح مراميهم وأهدافهم. بل إن نظرة عابرة إلى القذارات التي تبثّها الشاشات «التغييرية» المأجورة كافٍ للدلالة الحاسمة على حقيقة هؤلاء التغييريين الغارقين في الارتهان الوريدي والتبعية العضوية لقوى السلطة التي أفقرت اللبنانيين وأطاحت بحقهم في العيش الكريم، وهي السلطة المرتهنة بدورها إلى خارج معادٍ وطامع لم ولن يتوقف عن فبركة الأكاذيب وطبخ المؤامرات في سبيل النيل من قوة البلد وعنصر منعته الأساس والوحيد الذي تمثله المقاومة التي أنجزت مهمة تحرير الأرض لكنها، ولأسباب بعضها مبرر وبعضها الآخر لا تبرير له، «تتلكأ» عن المباشرة في التصدي الفعلي لمهمة تحرير إنسانها، والذي يستلزم أول ما يستلزم القطع مع شبكة المصالح المرعية محلياً وإقليمياً وغربياً.
لذلك، وخلافاً لكل الأكاذيب و«الزعبرات» التغييرية البليدة فإن شهية السلطة والتنعم بخيراتها، وبما يخدم أهداف أصحابها القابعين خارج الحدود هما جوهر السعار الانتخابي وبرنامجه الوحيد. وهل يملك هؤلاء المرتزقة والمأجورون غير البرنامج المقصور على التصويب على المقاومة وتكرار محاولة تشويه صورتها ودورها. بل أن هذه الشهية المقيتة هي المحرك الوحيد لكل هذا التضليل والعبث بالعقول. أما «البرامج» أو «المشاريع» ذات الصلة، ولو الشكلية، بمصالح الناس وتحسين عيشهم فلا حاجة لهم بها، وليست ضمن مهامهم. فليس عند هذه القوى وخصوصاً متفرعاتها الجديدة من مطايا السفارات الغربية وفلول اليسار الليبرالي، وجلّهم من «ثوار» الغفلة التشرينية، غير متابعة ما درج عليه آباؤهم أو رعاتهم المحليون والإقليميون والدوليون في بث السموم وتضليل الناس والكذب عليهم.
كانت لدى رفيق الحريري قناعة مطلقة بأن من لا يشتريه المال يشتريه المزيد من المال. قناعته المطلقة هذه لم تهتز برغم «حوادث» الامتناع التي جوبه بها. وعلى أساس هذه القناعة بنى منظومته التي استباحت الدولة وحطمت إداراتها، وأسست للخراب العظيم الذي وصلنا إليه. وما فورة المرشحين «التغييريين» وكثرتهم العددية وتكالبهم للوصول إلا انعكاس طبيعي لهذا الخراب ولحال الخواء العام الذي صارت إليه أحوال المجتمع.
طبعاً، لم تكن هذه قناعته الوحيدة. فإلى جانب هذه القناعة البائسة التي تعلّمها في بلاد البداوة البعيدة، كانت لديه الكثير من «القناعات» المشابهة البعيدة عن الواقع اللبناني الذي بقي، رغم الاختراقات الكبيرة، عسيراً على الهضم. لكن ذلك لم يحل بينه وبين تشكيله لجيش إداري مثل الرقيق الشيوعي أو اليساري الرخيص الذي ازدهر بعد الانهيار السوفياتي نواته الصلبة.
نجاح واكيم صاحب الجذرية الوطنية والقومية الخاصة به والذي خالف يومها المتوقع اليساري البليد، وتقدّم صفوف المواجهة مع الحريرية قرّر، اليوم، التخلي عن المقعد النيابي المتاح. مسجلاً بذلك سابقة لبنانية نضالية تضاف إلى الرصيد. فعند المفاضلة بين رتبة المناضل ومنصب النائب اختار رجلنا الرتبة وأثقالها وركل المنصب وامتيازاته.
قد لا تكون حسابات القرار «عامة». بل قد تكون خاصة وخاصة جداً، ولا علاقة لها حتى بأي من الاعتبارات التي أوحى بها. وقد يكون وقد يكون... إلا أن المهم أن إعلان الرجل، وبمعزل عن كل ما أورده في مؤتمره الصحافي الذي خصّصه للإعلان عن عزوفه، يشكّل سابقة بل وإضافة تستحق التنويه. خصوصاً أن القرار المشوب بالعتب الواضح على «الأصدقاء» ولومهم لم يقطع مع تاريخ الرجل ومواقفه الوطنية والقومية، بل جاء ليؤكد عليها وعلى وجوب ترسيخها. ولعل تأكيد الرجل على موقعه إلى جانب المقاومة ومعركتها برهان إضافي على وضوح الرؤية وجذرية الموقف وسلامة التحليل، وهي من الصفات التي لم تغب عن واكيم حتى في أحلك اللحظات.
ففي الشرط اللبناني، وهو شرط خاص وخاص جداً، الأولوية للمنصب، وكل ما عدا ذلك لا أهمية له. لذلك كثيراً ما يحدث أن تقع الانقلابات وتتغير الولاءات. فالوصول إلى المنصب، لبنانياً، يستدعي بالضرورة الانقلاب الشامل والكامل وكسر المعايير وتالياً كشف الولاءات الحقيقية أو تغييرها... والأمثلة على ذلك كثيرة.
صحيح أن عملية الجمع بين الرتبة والمنصب صعبة ودونها المنزلقات. إلا أن في التاريخ السياسي اللبناني استثناءات يصعب نسيانها. وربما كان نجاح هو أحد أبرز هذه الاستثناءات التي أمكن لها الجمع، وببراعة نضالية، بين الرتبة والمنصب. والتاريخ لن ينسى تصويته النضالي ضد اتفاق 17 أيار. فمع نجاح كان الأمر دوماً سهلاً وممكناً ووارداً. وربما كان بمقدوره، اليوم، ورغم الصعوبات المستجدة أن يعاود الجمع بين الرتبة والمنصب على غرار ما فعل طوال تمرسه بالموقعين، لكنه هذه المرة فضّل الرتبة لمعرفته بلا جدوى المنصب.
في الوقت نفسه، وعلى النقيض مما فعله نجاح، وُجد من تخلى، وبالمجان، عن الرتبة التي آلت إليه بـ «الوراثة الإدارية». فمقابل الحصول على صفة ناشط، ارتأى حنّا غريب أن يسجل رحلة عكسية، فاختار التخلّي عن الرتبة مقابل الحصول على صفة الناشط. وشتان ما بين الرتبة والصفة. فالمناضل رتبة نبيلة تستلزم السهر والكد والتعب ولا ينالها إلا من كان مستعداً لموجباتها. أما الناشط فصفة مناقضة لكل ما ارتبط بالرتبة أو اتصل بها من قيم ومبادئ، وهي في جوهرها اختراع خبيث أريد منه التخلص من الرتبة وأصحابها ودفعهم إلى غياهب النسيان.
وبما أن المفارقات اللبنانية لا حدود لها، ما كان ينقص إلا أن يعلو صوت مطرب «البلد ماشي» و«لعيونك» بإدانة المنظومة. وهي المنظومة نفسها التي كانت بمثابة الحضن الدافئ لهذا المطرب الذي نهل من خيراتها على مدى عقود وحين جفّ نبعها آثر الارتداد إلى حقيقته الأصلية. حقيقة الانتهازية والتلون والزئبقية... وهو عين ما فعله سابقاً حين صنّف نفسه على تيار اليسار المناضل، وهو غير اليسار المزيّف اللاهث خلف فتات الناشطين ولوائح مرشحيهم المعدة في مطابخ دوروثي شيا وآن غريو، كما ويتصدّر صفوف المصفقين للعدوان الشامل المفتوح على روسيا.