كانت دائرة بيروت الثانية أمّ المفاجآت الأحد الماضي. مع نحو 155 ألف مقترع (مقارنة بنحو 148 ألفاً في عام 2018)، بدا أن بيروت لم تقاطع كما كان يأمل الرئيس سعد الحريري، لكنها أيضاً لم تصوّت كما اشتهت الرياض ودار الفتوى وفؤاد السنيورة.ماكينات انتخابية مختلفة في الدائرة أكّدت أن عائلات بيروتية لم تكن تعير الانتخابات النيابية اهتماماً شاركت في الاستحقاق للمرة الأولى منذ عام 2000، عندما خاض الرئيس رفيق الحريري معركة تثبيت وجوده السياسي في وجه خصومه. في المحصّلة، كانت النتيجة صاعقة لكلّ من يعتقدون أنهم يحفظون بيروت عن ظهر قلب. في العادة، التصويت السني (أكثر من 110 آلاف ناخب) يكون تقليدياً ومحافظاً، والناخب السني أقرب إلى «ناخب زعامة» لا يغريه التغيير كثيراً. في الانتخابات الماضية، مثلاً، لم تنل لوائح المعارضة أكثر من 7 آلاف و500 صوت.
التغيّر في المزاج السني أتى، أساساً، بفعل حماسة من هم دون الأربعين عاماً الذين كانت لهم الغلبة في صناديق الاقتراع، إضافة إلى المغتربين الذين صوّت نحو 65% منهم لـ«قوى التغيير».
(هيثم الموسوي)

لم تفاجئ بيروت الحريري وحده، بل دار الفتوى أيضاً. خطبُ يوم الجمعة، قبل يومين من الاستحقاق، لم تفعل فعلها. لعبُ بعض الخطباء على وتر الزواج المدني لم يحل دون أن تصبّ أعلى نسبة أصوات تفضيلية في لوائح «التغيير» لمصلحة إبراهيم منيمنة (أكثر من 13 ألف صوت) الذي كان له النصيب الأكبر من حملات رجال الدين... وصولاً إلى التكفير والردّة.
لم يكن وقع الصدمة أقل وطأة أيضاً على الرياض. صحيح أن بيروت لم تقاطع الاقتراع، وهو ما أراده السعوديون، لكنّ «بيروت تواجه» التي تحوّلت السفارة السعودية إلى ماكينة انتخابية لها واجهت نهاية مؤلمة. خاضت اللائحة، ومن وراءها فؤاد السنيورة، معركة أحرق فيها الأخير مراكبه مع سعد الحريري، فأعطى وليد جنبلاط مقعداً، وفشل في إيصال مرشح سني واحد إلى البرلمان، وحتى في تحقيق رقم فاقع. سقط خالد قباني بـ«الضربة القاضية، أمام وضاح الصادق، وقالت العاصمة للسنيورة: ««كش ملك». لم يتمكن الرجل من لمّ أهالي بيروت والوصول إلى رقم يليق برئيس حكومة كان طوال 17 عاماً رأس حربة ضد حزب الله وحلفائه، والمرشحون الذين جمّعهم من كلّ المشارب (جو إسلامي، جو مقرّب من الحريري...) لم يتمكّنوا من جمع أكثر من 18 ألف صوت، لا أكثر ولا أقل. أما اتحاد جمعيات العائلات البيروتية الذي رفع لواء السنيورة وخاض حربه فمُني بهزيمة وخرج من المعركة هزيلاً جداً مع هزال الأصوات التي نالها مرشحا الاتحاد على اللائحة ماجد دمشقية وبشير عيتاني. دمشقية، المحامي النشيط اجتماعياً، لم يصل إلى عتبة الألف صوت. وعيتاني الذي أعلن آل عيتاني دعمه قبل أيام من يوم الانتخاب لم يكن مرشح إجماع في العائلة، إذ نال 1692 صوتاً فيما نال مرشح «بيروت بدها قلب» (المدعومة من فؤاد مخزومي) عبد اللطيف عيتاني 1532 صوتاً.
تضاعف عدد الأصوات السنية لحزب الله من 2500 إلى خمسة آلاف


السنيورة هو من يتحمّل أساساً مسؤولية الانهيار الذي أصاب اللائحة. إلى جانب عدم تقبّل البيارتة له، لم يهزّ «كيسه» رغم تلقيه دعماً خليجياً، وجهر بدعمه لاثنين من المرشحين هما خالد قباني ولينا التنير، فيما كان على بقية أعضاء اللائحة «تسليك» أمورهم بأنفسهم. في وقت كانت الفوضى تسيطر على الماكينة التي لم يعمل مسؤولوها على الاستحصال على تصاريح للمندوبين. دمشقية، مثلاً، كان له 10 مندوبين فقط يفترض أن «يوزّعهم» على أكثر من 500 مركز اقتراع! كلّ ذلك قبل أن «تفرط» الماكينة فجر يوم الأحد. أتى المرشحون صباحاً إلى مقر الماكينة ليجدوا أن المندوبين الذين تلقّوا مستحقاتهم المالية أتوا قبل الخامسة فجراً و«قشّوا» كل ما كان على الطاولات من أجهزة وقرطاسية و«باور بنكس»... وحتّى «جاكيت» أحد المرشحين!
نظرية المؤامرة تسيطر على مرشحي لائحة السنيورة. المرشحة زينة المصري تشير إلى «وقائع وأدلة» تؤكد حصول عمليّات تزوير أدّت إلى قلب الأرقام التي حصلت عليها وقباني، وتتحضّر للطعن أمام المجلس الدستوري، وبعض المرشحين على اللائحة يؤكدون أن «بيروت تواجه» واجهت الجميع، وفي مقدمهم تيار المستقبل الذي استشرس في محاربتها عبر رئيس جمعية بيروت للتنمية أحمد هاشمية، ويقدمون «أدلة» على مفاتيح انتخابية مستقبلية عملت على الحشد للائحة نبيل بدر «هيدي بيروت»، إذ لم يكن الأخير ليحصل على 5600 صوت لولا «أبة باط» من الحريري نفسه لإسقاط السنيورة. كما ارتفاع الأصوات التفضيلية لمرشح الجماعة الإسلامية عماد الحوت من أقل من 4 آلاف عام 2018 إلى أكثر من 7 آلاف «يعني أن المستقبل جيّر له بلوكاً لا بأس به».

الثنائي لم يخسر
تشتّت الصوت السني بين اللوائح. 5 آلاف سني (مقابل 2500 في عام 2018) صوّتوا لمرشح حزب الله أمين شري رغم الحملات التي خيضت ضد الحزب الذي، وحده، حافظ على كتلته الصلبة، ورفع عدد الأصوات التفضيليّة لمرشحه من نحو 23 ألفاً في عام 2018 إلى أكثر من 26 ألفاً، فيما تراجعت أصوات نائب حركة أمل محمّد خواجة من نحو 8 آلاف إلى نحو 6 آلاف.
حلفاء الحزب السُّنة على اللائحة، من جهتهم، غير راضين عن النتيجة، إذ لم يُجيَّر إليهم صوت واحد كما يظهر من الأرقام التي حصل عليها المرشحان السُّنيان (لا تتعدى 370 صوتاً) ومرشح الحزب السوري القومي الاجتماعي رمزي معلوف الذي نال 745 صوتاً هو البلوك الفعلي الذي يملكه الحزب في بيروت الثانية.
وكما حزب الله، كذلك جمعية المشاريع الخيريّة التي لم تتراجع شعبيتها، إذ حصل مرشحاها على أكثر من ألف صوت إضافي عمّا حصل عليه عدنان طرابلسي عام 2018.
في المقابل، لحقت أفدح الخسائر بفؤاد مخزومي وبهاء الحريري. الرجلان اللذان أنفقا آلاف الدولارات خرجا «من المولد بلا حمص». مخزومي لم ينل أكثر من حاصلٍ واحد، فيما محاولاته لاختراق الشارع الشيعي لم تعد عليه بأكثر من 500 صوت، إضافة إلى نحو 250 صوتاً للمرشحين الشيعيّين على لائحته اللذين حصلا على 458 صوتاً. فيما ذهب نحو 1800 صوت شيعي لـ«قوى التغيير». أما نجل رفيق الحريري الطامح لوراثته ووراثة شقيقه، فلم تنل لائحته «لتبقى بيروت» أكثر من 2387 صوتاً، ولم تزد حصيلة معظم المرشحين الذين يدعمهم على أكثر من 300 صوت!