قرّر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، تكثيف نشاطه الوظيفي والإعلامي. ففيما جدّد لثلاثة تعاميم ضربة واحدة، اثنان بينها تنظّم الهيركات على الودائع بطريقة مقنّعة، والثالث يحدّد هامش الربحية المرتفع للمصارف بين كلفة ودائعها ومردود توظيفاتها لدى مصرف لبنان، أطلّ في مقابلة متلفزة ليُظهر استعادة القدرة على قيادة توزيع الخسائر وإلقاء مسؤوليتها على الدولة انسجاماً مع خطاب المصارف الراغبة في الاستيلاء على أصول الدولة.المقابلة لم تكن عبثية التوقيت. وفيها ذكّر سلامة بأن خسائر مصرف لبنان - التي كان يفترض أن تؤدي إلى شبهات فساد - تقع على عاتق الدولة. سلوكه أوحى بأنه أُعفي من هذا الاستحقاق، بل يشي بأنه جرى تصفير كل دفاتره ليعود إلى تولّي المسؤوليات التي قام بها طوال 30 سنة: إدارة السياسات النقدية والمالية، وتحديد الرابحين والخاسرين. في سياق ذلك، أعلن تجديد التعاميم 151 و158 و161 والتي قدّمها بأنها إنجاز، مصنفاً إياها في إطار «تخفيف الخسائر، وردّ الودائع إلى أصحابها، وتأمين رواتب العاملين في القطاع العام بالدولار لحماية القدرة الشرائية». ما لم يقرّ به الحاكم، ولا يتناسب مع أجندته، هو أن هذه التعاميم مربحة للمصارف فقط، وأنها تقتطع قسماً كبيراً من الودائع وتردّ قسماً ضئيلاً مموّلاً بنسبة كبيرة من مصرف لبنان.
كذلك، غَسَل سلامة يديه من كل السياسات النقدية التي دفعت بالبلد وقطاعاته وأبنائه إلى الانهيار والهجرة والفقر. عملية توزيع الخسائر بنظره تبدأ وتنتهي عند الدولة اللبنانية: «من الفترة الممتدة من 2010 حتى 2021، أخذ قطاع الطاقة نقداً 24 ملياراً و537 مليون دولار، أما القطاع العام فأخذ 8 مليارات و320 مليون دولار، و7 مليارات و572 مليون دولار لتمويل الاستيراد للمواد المدعومة، إضافة إلى 7 مليارات و446 مليون دولار خسائر تكبّدها المصرف من اليوروبوندز، أما كلفة الفائدة على هذه الأموال فكانت 14 ملياراً و800 مليون دولار. الدولة اللبنانية أخذت على مدى 10 سنوات 62 ملياراً و670 مليون دولار، بموجب القوانين». لم يفسّر ما هي القوانين التي يشير إليها، وكيف تفرض عليه التسديد، وبأيّ عملة... عملياً، كانت الموازنات بالليرة، وكان سلامة يموّل عجوزاتها من خلال نقل الخسائر إلى ميزانيته عبر أكثر من طريقة؛ أبرزها الاكتتاب بسندات الخزينة بدلاً من المصارف، والاقتراض من المصارف بفوائد أعلى بنقطتين أو ثلاث. بمعنى أوضح، كان يعلم عن سابق تصوّر وتصميم ماذا يفعل، بل كان متواطئاً مع المصارف ومع القوى السياسية على مواصلة هذه اللعبة. أما تبديد الدولارات فتلك مسألة أخرى، لأنه عندما تريد الدولة شراء الفيول تذهب كأيّ زبون إلى المصرف، ومصرفها هو مصرف لبنان الذي يفترض به تأمين الدولارات بما سمّي في ذلك الوقت «السعر الرسمي».
يبدو أن سلامة يتغافل عن سياسة السعر الرسمي والتثبيت من أجل تسويق فكرته عن توزيع الخسائر والمسؤوليات. فهو تعمّد الدخول طرفاً في اللعبة السياسية بين التيار الوطني الحرّ وخصومه وتبنّى حججهم التي تتهم التيار بتكبيد الدولة مليارات الدولارات على الكهرباء، واستعمل في سبيل ذلك التركيز على خسائر مصرف لبنان في دعم الكهرباء خلال فترة تولي التيار وزارة الطاقة كوسيلة لتحقيق انتقامه من المعركة القضائية والسياسية التي يقودها التيار والقاضية غادة عون. وفي هذا المشهد كله، الحاكم بريء، مصوّراً نفسه مديراً محايداً لسياسات فرضت عليه من الحكومات المتعاقبة وبقوانين أقرّت في مجلس النواب.
عدّة سلامة تضمّنت المزج بين القوانين، وصلاحيته، وسلطة المصرف المركزي المستقلة. فعندما نفدت الدولارات بعد فوارق الفائدة التي كان يمنحها للمصارف بآلية تخفي عجز الموازنة وتنقل الخسائر إلى ميزانيته، لجأ إلى عمليات مالية لتعزيز سيولته بالدولار من خلال الاقتراض من المصارف وإقراضها أو تسييل سندات وأرباحها المستقبلية فوراً، أي أنه حفر الفجوة المالية بالدولار بنفسه. ويقول الخبير الاقتصادي وليد أبو سليمان: «غالبية الودائع وُظّفت مع عميل واحد هو مصرف لبنان. شهادات الإيداع لم تصرفها الدولة، إنما بُدّدت بطريقتين: لتمويل تثبيت سعر الصرف، وللقيام بهندسات مالية. أما استثمار مصرف لبنان، الوحيد، فهو باليوروبوندز بقيمة 5 مليارات دولار تشكّل أقل من 15% من حجم الدين بالدولار».
ويلفت أستاذ التمويل في الجامعة الأميركية محمد فاعور إلى أن «الغالبية الساحقة لأصول المصارف هي عبارة عن شهادات إيداع في مصرف لبنان. وإذا افترضنا أن سلامة أعاد أموال المصارف إليها، عندها ينبغي على المصارف الإجابة عمّا فعلته بالدولارات. فيما الدولة كانت تصدر اليوروبوند وتودعه لدى المصرف المركزي وتتقاضى مقابله ليرات لبنانية. لذا، سلامة يخلط بين الليرة اللبنانية والدولار، وما زال يعتمد في حساباته اللامنطقية السعر الرسمي للصرف من دون التمييز بين العملتين».