حال من الشعور بالإهانة الوطنية تنتاب غالبية الخبراء والمهتمّين اللبنانيين بملفّ ترسيم الحدود البحرية الوهميّة مع فلسطين المحتلة. وحدها مسيّرات المقاومة، الأسبوع الماضي، أعادت إلى هؤلاء شيئاً من حس الكرامة الممسوس، جرّاء التعامل الرسمي مع القضيّة، واعتماد لبنان الخط 23، أو خطّ «الأمر الواقع».هناك تسليم، لدى عدد من الخبراء، بينهم السفير السابق سعد زخيا والعميد المتقاعد أنطون مراد والوزير السابق طارق المجذوب وغيرهم، بأن لا حجج تقنيّة وعلميّة يمكن أن تدفع السلطة الرسمية، إلى التخلّي عن الخط 23، بنسختيه.

10 أسباب لدحض الـ 23
هل من المعقول أن تتبنّى الدولة خطّاً تم تفصيله على مقياس بلوكات فلسطين المحتلة كما رسمتها «نوبل إينرجي» وأعلنت عنها في 1 آذار 2009، من دون أخذ الحقّ اللبناني في الاعتبار، ليظهر الخط 23 بعد شهرين، في 29 نيسان 2009، وتتبناه الدولة؟ «معقول» وعادي.
هناك أكثر من عشرة أسباب، علميّة ووطنية، تدحض الخطّ 23، يتغاضى عنها المسؤولون اللبنانيون. هنا بعضها:
لا ينطلق الخطّ 23 من نقطة رأس الناقورة المحددة في اتفاقية الحدود بين لبنان وفلسطين في 1923. بل انطلق من النقطة رقم 18 في البحر، مخالفاً بذلك أبسط قواعد ترسيم الحدود البحرية التي توجب انطلاقه من النقطة التي تنتهي عندها الحدود البرية. والنقطة 18، تظهر على الخريطة البحرية التي تم إيداعها لدى الأمم المتحدة على أنها واقعة على البرّ شرق رأس الناقورة. بينما هي تقع حقيقة، ووفقاً لإحداثياتها الجغرافية المرفقة بالمرسوم 6433، على بعد حوالي 28 كلم في البحر. وبالمناسبة، تظهر على الخريطة اللبنانية كلمة «Israel» بدل فلسطين المحتلة، وهذا بحدّ ذاته مخالفة صريحة للأنظمة والقوانين اللبنانية.

متوازي الأضلاع الوارد في نص اتفاقية 17 أيار تتجاوز حدوده الجنوبية إحداثيات الخط 23 بأشواط | انقر على الصورة لتكبيرها

وفيما يعطي الخط أثراً كاملاً للنتوء الصخري في «تيخيلت» وكأنها جزيرة فعليّة، لا تقع إحداثيات نقاط الخط 23، على المسافة ذاتها من أقرب النقاط على خط الأساس اللبناني، وخط أساس الدول المجاورة (تم ذكره في محضر اللجنة المشتركة المشكلة بموجب قرار مجلس الوزراء رقم 107/2008).
كما أن إحداثيات النقطتين 24 و25 الواقعتين بين النقطة 1 و23 قد تم تبديلهما، حيث أخذت النقطة 24 إحداثيات النقطة 25، والعكس صحيح! والأغرب، هو أن تتناقض طريقة ترسيم الخط 23 بين لجنة 2009 ولجنة 2012!
أما غرباً، فيُسقط الخطّ 23 مبدأ الإنصاف في قياس المسافة بين الساحلين، اللبناني والقبرصي، معطياً قبرص مسافة أطول باتجاه لبنان، متجاهلاً المنهجية التي تعطي للجزيرة حدوداً في المياه الاقتصادية، أقل من تلك التي يأخذها الساحل المتصل.

«17 أيار» أكثر إنصافاً!
كل هذا قد لا يفيد، لأن «الكنيسة القريبة لا تشفي» والتجاهل هو السياسة المتبّعة في التفاوض غير المباشر مع العدوّ ومع الأميركيين.
لكنّ ما اكتشفه الوزير يعقوب الصّراف حول البدعة المسماة الخطّ 23، قد يكون أكثر تأثيراً من كل المعلومات العلمية والتقنيّة. إذ اكتشف اعترافاً على لسان العدوّ، بأن المساحة البحرية اللبنانية تمتد جنوب الخط 23 بأشواط.
فقد أوردت اتفاقية «السلام» المزعوم الموقّعة بين الدولة اللبنانية والعدوّ في 17 أيار 1983، في الفقرة «2 - ز» من الملحق الأوّل، ما حرفيته: «أن المنطقة الممتدة من «33 درجة و15 دقيقة شمالاً، و35 درجة و12.6 دقيقة شرقاً»، إلى «33 درجة و05.5 دقائق شمالاً، و35 درجة 06.1 دقائق شرقاً» وإلى «23 درجة و15 دقيقة شمالاً و35 درجة و08.2 دقائق شرقاً»، وإلى «33 درجة و05.5 دقائق شمالاً و35 درجة و01.4 دقيقة شرقاً»، هي منطقة محظورة في الوقت الحاضر أمام الملاحة البحرية، يحتفظ بها لبنان».
رَوَّجَ هوكشتين لترك مسألة التنقيب والإنتاج برمّتها للعدو الإسرائيلي


وإذا ما تمّ إسقاط إحداثيات متوازي الأضلاع المشار إليه في الاتفاقية المشؤومة، على الخريطة الحالية ومقارنتها بإحداثيات الخطّ 23 الحالية، بنسختيه، الأولى والثانية المحدّثة لاحتواء المكمن المحتمل للغاز المسمى «حقل قانا»، فإن الحدود الجنوبية لمتوازي الأضلاع تتجاوز الخط 23 بمساحة بحرية واسعة. فكيف سبق للعدوّ أن «اعترف» بسيادة لبنان على هذه البقعة، ويطالب اليوم بقضم حتى شمال الخط 23، وصولاً ربّما إلى الخط واحد القديم. وكيف يمكن للدولة أن تملك وثيقة من هذا النوع، باعتراف العدوّ، ولا تستخدمها في معركة تحصيل مساحة أوسع وحصة أكبر من الغاز في البحر؟
في الإصرار على الخطّ 23، تتعمّد السلطة السياسية والرسمية إهانة الشعور الوطني للبنانيين، وتحقيق هزيمة نفسية ـ مادية أخرى لهم، في إطار مساعيها للبحث عن أدوار متجدّدة بأي ثمن، ضمن المنظومة السياسية ـ الاقتصادية الجديدة المزعومة في المنطقة.

القبول بالفتات
أمّا النظرية التطبيقية، فهي القبول بالفتات، أو «مصّ العظام» بدلاً من التحرّق جوعاً، أثناء التفرّج على الوليمة، من بعيد. هذا، عملياً، ما عرضه الموفد الأميركي الصهيوني عاموس هوكشتين. همساً، رَوَّجَ هوكشتين لترك مسألة التنقيب والإنتاج برمّتها للعدو الإسرائيلي، واكتفاء لبنان بتلقّي العوائد المالية وإمدادات الغاز لإنتاج الكهرباء في صور أو الزهراني! وعلناً، حين تحدّث في مقابلته الوقحة أخيراً على قناة «الحرّة» بلغة المحتلّ، عن أن «أصلب الملفات (الترسيم) التي يمكن للبنان أن يعدّها (ليس الأمتن قانونياً أو تعطي لبنان حقّه في ثروته، إنما) تلك التي يمكن أن تنجح»، ساخراً من «ضعف» لبنان وامتلاكه لا شيء، مقلّلاً من أهمية حقوق اللبنانيين القومية وأملهم في استخراج النفط للنهوض من الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.

يُسقط الخطّ 23 مبدأ الإنصاف في قياس المسافة بين الساحلين اللبناني والقبرصي


لا يُلام الجندي السابق في جيش الاحتلال، ومنظّر التطبيع الاقتصادي، على محاولته تنفيذ مهمّته أو عنجهيته. فقد وفّر النظام اللبناني، بأركانه، منذ عام 2007، المناخ المناسب لاستباحة واسعة للسيادة والموارد والكرامة، بعد أن افتتح الرئيس فؤاد السنيورة موسم التنازلات.
هذا الأسبوع، لا مواعيد لهوكشتين في بيروت. ولا حتى تلميح «إيجابي» واحد من طرفه، لا قبل المسيّرات، ولا بعدها. وهو الذي كان من المفترض أن يأتي بجوابٍ خطيّ من العدوّ على مقترح الدولة اللبنانية باعتماد الخط الهجين «23 برايم». ذهب هوكشتين وسيأتي مع الرئيس جو بايدن إلى المنطقة، الذي يُضمّن ملفّاته ضمان تدفّق الغاز من كاريش، واستكمال «حلب البقرة»، ديموقراطياً هذه المرّة، قبل الخريف الأوروبي، من دون أي اهتمام لمصالح لبنان، ولا للخط 23 نفسه.
التسوية التي يطرحها هوكشتين والخط 23 (إن قبل به العدوّ)، لا تقدّم حلّاً «مفيداً» للبنان، بل تحوّل كل لبناني إلى شاهد زورٍ على سرقة موارده وموارد فلسطين، بعد أن انتُزعت من الدولة اللبنانية، وعن عمد، أدوات المناورة السياسية، وضاقت الخيارات حتى باتت تلامس حاجة الجميع إلى الحرب.
أكثر من أيّ وقتٍ مضى، على اللبنانيين أن يختاروا، بين الأوهام الآتية باتفاقيات لن تعقد، وإذا عقدت لن تنفّذ، وبين الالتفاف حول خيار المقاومة المسلحة وسيلةً لاستعادة الحقوق. أما الحرب، والدماء التي ستسيل، فهي مسؤولية كلّ من تنازل وهادن وأفقد لبنان أوراق القوّة الديبلوماسية والقانونية، ثم كل من انتقد المسيّرات، بدل أن يقف المهزومون خلفها، علّهم يحفظون شيئاً من ماء وجوههم.