في موازاة النصائح الخارجية بضرورة الحفاظ على المواعيد الدستورية وإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها، يصبح الكلام عن تأليف حكومة جديدة ثانوياً. جميع المعنيين بتشكيلها يتصرفون في الشكل والمضمون، منذ ما قبل تكليف الرئيس نجيب ميقاتي، على أن حكومته باقية لتصريف الأعمال الى ما بعد الشغور الرئاسي، وأن تجربة تأليف حكومة الرئيس تمام سلام قبل انتهاء عهد الرئيس ميشال سليمان لن تتكرر.عملياً، انتقل الكلام من حتمية تشكيل الحكومة وانتخاب رئيس جديد الى محاولات ترتيب الأوضاع لمواجهة ما بعد 31 تشرين الأول. لذا صار طاغياً الكلام عن دراسات وفتاوى حول مفهوم تصريف الأعمال وصلاحيات رئيس الجمهورية، وبدأت مجموعة من الاجتهادات لحقوقيين ودستوريين معروفين وغير معروفين قيد التداول. صحيح أن هذا الكلام ليس جديداً، لكنه اليوم يعطي نفحة مختلفة عن السابق، كون المواجهة أكثر حدّة من قبل. وبعيداً من الدخول في فتاوى دستوريين موثوقين وتفنيد الصح والخطأ في اجتهاداتهم، فإن الفكرة الأساسية التي يصرّ دستوريون على التمسك بها، لا تتعلق بإيجاد أسباب موجبة لما بعد الشغور الرئاسي، بل تنطلق من فكرة أن الدستور في الأصل «ليس سيئ النية» وأن واضعيه ليسوا كذلك أيضاً، بمعنى افتراض مسبق لأوضاع خارج المألوف كعدم إجراء الانتخابات، وتالياً اجتراح حلول لمعضلات لا يفترض أن تكون موجودة في بلد يحترم دستوره. فالصحّ هو أولاً وآخراً الالتزام بالدستور وإجراء انتخابات رئيس للجمهورية، وليس الذهاب كل ست سنوات الى فتاوى واستخلاص ما لم يأت الدستور على ذكره. وهذا ما كان يفترض الالتزام به حالياً، بدل غرق كل فريق في النبش في الدستور عن تبريرات لحكومة تصريف الأعمال في تولّي صلاحيات رئيس الجمهورية أو العكس.
لكن في المقابل، اعتاد لبنان أكثر من مرة خرق دستوره والقفز فوقه والتمديد للرئيسين إلياس الهراوي وإميل لحود بتعديل دستوري، كما الحال في التمديد للمجلس النيابي مرة تلو أخرى، شاهد على ذلك. ولأن المواجهة اليوم تبدو أكثر حدّة، ثمة محاولات لتخطي التبريرات بإعادة التلطّي خلف «مسيحية» الموقع وتصوير الوضع الذي تذهب إليه رئاسة الجمهورية في حال عدم انتخاب رئيس جديد، على أن الرئاسة الثالثة «السنّية» التي تصرّف الأعمال ستحلّ محل الرئاسة الأولى المسيحية. من هنا بدأت بعض التبريرات «الدستورية» تأخذ منحى مختلفاً نتيجة ما يرافقها من أطر سياسية.
فمحاولة رمي كرة صلاحيات رئاسة الجمهورية والحفاظ عليها بدل تسليمها لحكومة تصريف الأعمال في الملعب المسيحي انطلقت أولاً للحفاظ على وراثة العهد وإبقائه في التيار الوطني الحر الى حين نضوج ترشيحه. في هذه المرحلة التي لم يعد فيها رئيس التيار الوطني النائب جبران باسيل مرشحاً أول، وصار فيها رئيس تيار المردة سليمان فرنجية متقدماً، صار اللعب على الصلاحيات أكثر حاجة للعهد لعدم الذهاب الى خيارات تحت ضغط الأمر الواقع والتسليم بخيارات يمكن النفاد منها لاحقاً. لكن دون ذلك محاذير، أولها موقف حزب الله من هذه الفتاوى واحتمال بقاء عون في بعبدا، وهو الأمر الذي يتردد أن الحزب غير موافق عليه لأنه سيخلق شرخاً مع فرنجية ومع الجيش، عدا عن الحساسيات مع المجتمع الدولي، وإن كان الحزب لا يضع هذه الحساسيات في المرتبة الأولى بحسب موازين القوى المستجدّة. النقطة الثانية هي أن تطورات الأيام الأخيرة، والإشكال الأخير الحاصل بين العهد وبكركي تحديداً والقوى المسيحية المعارضة، لم تعد تسمح بتحويل الصلاحيات المسيحية إلى قميص عثمان يمكن للقوى المسيحية أن تقف خلف بعبدا للدفاع عنها.
الإشكالات بين العهد وبكركي لا تسمح بتحويل الصلاحيات المسيحية إلى قميص عثمان والوقوف خلف بعبدا للدفاع عنها

فموضوع بلدية بيروت والاتفاق بين مكونات مسيحية حوله، على أهميته، لا تدخل فيه الحسابات الرئاسية والطموحات المستقبلية لكل القوى المعارضة. ومن المشكوك فيه أن تحمل بكركي أو أي طرف مسيحي لواء الدفاع عن صلاحيات الرئيس وعدم تحويلها الى حكومة مستقيلة، فيما هؤلاء جميعاً يعدّون الأيام المتبقية لنهاية عهد عون. في المقابل، فإن حكومة تصريف الأعمال، في الترهل الذي تعيشه والتخلّي عن أدنى موجبات العمل الحكومي في ملفات حياتية ومعيشية ومعالجتها في شكل سريع، لا تترك المجال كذلك للدفاع عنها والارتضاء بها وكيلاً عن رئيس الجمهورية، علماً بأن جواً «سنّياً» بدأ في المقابل للدفاع عن رئاسة الحكومة وصلاحياتها حتى في تصريف الأعمال، فيحذّر من ضرورة المسّ بها، في ظل الجو المتعلق بصلاحيات رئيس الحكومة في اختيار تشكيلته الحكومية ورفض خضوعه لشروط رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر. ورهان هذا الفريق أن الغلبة ستكون ليس فقط لدراسات تعطي الشرعية لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، إنما كذلك لخيار الرئيس نبيه بري في عدم تغطية «انقلاب» سياسي ببقاء رئيس الجمهورية في بعبدا، ولا سيما أن بقاءه دستورياً غير متاح، ما يجمع المعارضة وبعض الموالاة للمرة الأولى على نقطة واحدة، بغضّ النظر عن أيّ فتوى دستورية.