حين عيّن رئيس مجلس النواب نبيه بري جلسة انتخاب رئيس للجمهورية في 13 تشرين الأول، اعترض التيار الوطني الحر وقاطع الجلسة لرمزية ذلك اليوم. وكانت ثمة تمنيات على القوى المسيحية، كالقوات اللبنانية والكتائب، بعدم المشاركة انطلاقاً من واقعة أن المناسبة تتعلق بذكرى دخول القوات السورية إلى لبنان وإلى «بيروت الشرقية». في حين برر منتقدوه موقفهم بأن التيار الذي يحتفل بالذكرى هو نفسه الذي أصبح حليفاً لسوريا وحلفائها في لبنان، فانتفت بذلك رمزية المناسبة. مع ذلك تبقى الذكرى في وجدان المسيحيين، كأول المؤشرات التي أسهمت لاحقاً في الانحدار السريع وتلاشي حضورهم في الدولة التي شاركوا في تأسيسها، بغضّ النظر عن الأسباب المتعددة التي رافقت هذا الانحدار.مع كل فراغ رئاسي، منذ أن دخل العماد ميشال عون قصر بعبدا وغادره في 13 تشرين الأول 1990 ومن ثم الفراغ الذي أعقب ولايتي الرئيسين إميل لحود وميشال سليمان، تنتفي وجود أسباب منطقية للاحتفال. فمغادرة لحود وسليمان وانطفاء القصر بعد خروجهما، من دون تسليم مفاتيحه إلى رئيس جديد، لم تكن مناسبة تدعو للاحتفال، لبنانياً ومسيحياً، كونها كرست استسهال عدم انتخاب خلف لهما، وتثبيت انحسار التأثير المسيحي في فرض إجراء انتخابات رئاسة الجمهورية كحدث دستوري تلقائي.
في 30 تشرين الأول الجاري، يسعى التيار إلى أن يعطي لنهاية عهد الرئيس ميشال عون رمزية جديدة، فيحوّلها مناسبة للاحتفال بإنجازات العهد، وباستمرار «النضال» مع الرئيس الخارج من القصر الجمهوري على وقع مهرجان شعبي للتيار، من دون الالتفات إلى أن المناسبة ذات وجهين، وخطورة الاحتفال بها لا تعوّضها حركة رئيس التيار النائب جبران باسيل وإطلالات رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في الساعات الأخيرة.
فبعيداً من حملات الابتهاج السياسي لدى معارضي العهد بانتهائه، تحمل مبادرة التيار وجهاً سوداوياً، وتناقضات سياسية تتعلق بواقعه كحزب حاول طوال سنواته الأخيرة أن يشن حملاته تحت شعار الحفاظ على الحقوق المسيحية.
فالتيار يخوض في أيام العهد الأخيرة معركة تشكيل الحكومة من زاوية الحفاظ على مصالح التيار، تحت غطاء حقوق المسيحيين في التمثيل في حكومة كاملة الصلاحيات خلفاً للرئيس، وزيارته لبكركي تأتي من هذه الزاوية. وكان رئيس الجمهورية، في تصريحاته الأخيرة، واضحاً في التصويب على هذه النقطة وحق التيار ودوره في المشاركة بقوة في الحكومة. ورغم التصريحات المتكررة من الخشية من الفراغ إلا أن قوة الأوراق البيضاء التي سلكت طريقها إلى جلسات الانتخابية، غطت على أي مفاعيل يتبناها التيار لفرض انتخابات رئاسة الجمهورية ومبادراته السياسية التي لا أفق لها، في مقابل تحويل رئاسة الجمهورية مرة أخرى بعد مرحلة سبقت انتخاب عون ورقة مساومة على المدى البعيد. من دون الأخذ في الاعتبار حجم ارتداد تعذر انتخاب رئيس، مرة تلو أخرى، على المسيحيين الذين تبنّى التيار الدفاع عن مصالحهم في التعيينات الإدارية والوزارية والنيابية والعسكرية.
فالتيار يحيّد النظر عن الفراغ الرئاسي في اتجاه استثمار يتعلق بمركزية التيار وشعبيته في مثل هذه المناسبات. إذ إن انتهاء عهد عون ليس مناسبة حزبية، وليس حكراً على التيار الوطني الحر. إنه بالدرجة الأولى انتهاء عهد الرئيس المسيحي للجمهورية، من دون انتخاب خلف له. وهذه نقطة محورية في التعامل مع يومي 30 و31 تشرين الأول. فالرئيس المغادر أتى بعد سنتين ونصف سنة من الفراغ، سعى خلالها التيار إلى تزخيم معركته من أجل انتخاب الرئيس القوي والأقوى في طائفته والأكثر تمثيلاً. لكن الخروج من القصر بلا خلف ومن دون أن يلبي أي طرف دعوة عون وباسيل إلى الحوار والاتفاق على مواصفات الرئيس كما حددها باسيل، لا يستدعي الاحتفال بل العكس تماماً.
ويسعى التيار، في المقابل، إلى غض النظر عن المغزى الحقيقي لما سيحصل بعد 30 تشرين الأول، ويصرف النظر عن واقعة أن المسيحيين الذين خاض التيار «النضال» باسمهم، أصبحوا بلا رئيس للجمهورية، إلى أمد طويل. وإذا كان حزب الله تمكن من أن يفرض على الأقل خروج عون من بعبدا بعد محاولات اجتهاد لبقائه، فإن القوى المسيحية السياسية وبكركي معها، أصبحت عاجزة عن أن تكون مؤثرة في فرض انتخاب رئيس جديد للجمهورية. فيتحول المسيحيون مرة أخرى متفرجين على حدث رئاسي من دون أن يكون لكلمتهم وقع مباشر. ومع أن التيار لا يعتبر أن ذلك مسؤوليته وحده، يتحمل في المقابل وحده مسؤولية السعي إلى دمج معركة تشكيل الحكومة بالتعويض عن الفراغ الرئاسي. لا سيما أنه حتى اللحظات الأخيرة لا يزال حزب العهد والناطق باسمه، والمفاوض مع حزب الله والرئيس المكلف نجيب ميقاتي من أجل تثبيت واقعة الحكومة من وجهة نظره. وأي نجاح له ولو في الدقائق الأخيرة في ملف الحكومة سيحوله استثماراً «مسيحياً»، في حين أن رئيس الدولة غائب بفعل الأوراق البيضاء.
من العبثية أن تتحول مناسبة انتهاء العهد همروجة شعبية واستفتاء لشعبية عون وباسيل، والاثنان في غنى عنه. فخروج عون من القصر من دون خلف له في السلم، يوازي بخطورته خروجه في الحرب عام 1990. وفي المرتين يدفع المسيحيون ثمن الفراغ في قصر بعبدا.