لم يكن متوقعاً أن يقصد قاضٍ يوماً جمعية خيرية لتأمين حليبٍ لأطفاله، وأن يعمل آخر في تركيب ألواح الطاقة الشمسية. لكن ما بعد الانهيار ليس كما قبله. وبضعة ملايين من الليرات تتراوح بين ثلاثة ملايين للقضاة الجدد وثمانيةٍ للكبار منهم، تعادل بين 90 و200 دولار، كراتب شهري، لا تكفي لتغطية تكاليف الانتقال إلى العدليات وإلى مراكز العمل البعيدة أحياناً عن مراكز سكن القضاة. حياة «البحبوحة» يوم كانت «الليرة بخير»، باتت من الزمن الماضي، بالنسبة لبعض القضاة.لكن، في الجزء الآخر من الصورة مجموعة لا بأس بها من القضاة، تعيش «خارج الزمن». لا تتأثر بأزماتٍ اقتصادية، ولا بتعثّر صندوق تعاضد القضاة. وهي في الأصل لم تعتمد يوماً على راتبها. عيّنتها القوى السياسية في مراكز أساسية وحساسة لتؤدي أدواراً مطلوبة منها. مقابل هذا الارتهان، تضمن حياةً باذخة تفوق قدرة أي قاضٍ، حتى في زمنِ ما قبل الانهيار. على هذه الفئة تستند السلطة السياسية. والثقل فيها لعددٍ من المدّعين العامين وقضاة التحقيق وشاغلي مراكز عليا في الجسم القضائي، ممن لهم الكلمة الفصل في الملفات الأساسية في البلد. هؤلاء يعيشون وأسرهم من جيب رجل سياسة أو رجل أعمال أو مصرفي، وسيلبون نداءهم متى دعت الحاجة. في حين أن شؤون آلاف اللبنانيين وقضاياهم ومصائرهم معلّقة على أقواس العدليات تنتظر فكّ اعتكافٍ قضائي تخطى الأشهر الثلاثة. وبات استمراره عبثياً، وسط عدم جدوى انتظار تجاوب السلطة السياسية التي تستند إلى قضاة لا يعنيهم اعتكاف ولا من يعتكفون.
ومن هؤلاء، مثلاً، قاض كبير يزور أحد المصارف مرتين أسبوعياً حاملاً حقيبة بداخلها مليار ليرة، يحوّلها إلى الدولار على سعر منصة «صيرفة»، بحكم العلاقة الجيدة التي تجمعه بصاحب المصرف، وعلاقة القربى التي تربطه بأحد سياسيي الصف الأول. فيما يقطن مدع عام استئنافي في شقّة «سوبر دلوكس» في الرملة البيضا، مساحتها 300 متر، وتعمل فيها عاملتان من التابعية الفيليبينية تتقاضيان ضعف ما يتقاضاه قاض من قضاة الدرجة الأولى. وهو خلال السنة الجارية زار تركيا والإمارات وشرم الشيخ وجبال الألب للسياحة، حاله حال قضاة لم تتوقف رحلات استجمامهم إلى موناكو وأميركا وأوروبا وغيرها من الوجهات التي اعتادوا زيارتها، وحال قضاة آخرين لم يعتكفوا عن زيارة صالات كازينو لبنان ومقاهيه. فيما أعياد ميلاد أفراد الأسرة تفوق حتماً إمكانيات أي قاضٍ. وهؤلاء، منذ ما قبل الانهيار، كانوا يجلسون تحت قوس العدالة ليبرموا أحكاماً بأيديهم المزيّنة بساعات الـ«ROLEX». وبملابس من ماركات عالمية. صحيح أن بعضهم يتحدّر من عائلات ميسورة، ودخل السلك القضائي طمعاً بعلاقة قوة أو مكانة اجتماعية أو ما شاكل... إلا أن هؤلاء لا يتعدون العشرات، فيما البقية أبناء بيوتٍ متواضعة استفادوا قدر الإمكان من «الدولة» لتوظيف أبنائهم وإخوتهم في مؤسساتها كمصرف لبنان وشركتي الخليوي وقطاعات أخرى.
«من أين لكم هذا؟»، سؤال كان على هيئة التفتيش القضائي أن تطرحه على قضاةٍ ما عادوا يستحون بارتهانهم. لكن الهيئة المعيّنة بدورها سياسياً عجزت عن لعب دورها الأساسي في التنقية الذاتية للسلك، مسجّلة فشلاً تلو آخر لرؤساء الهيئة المتعاقبين.
غالبية المرجعيات القضائية العليا، وهي الأكثر انغماساً في علاقات المنافع الشخصية، انفصلت تماماً عن الواقع المعيشي الصعب لشريحة من القضاة، ممن يصرفون من مدخراتهم، وممن استعاضوا بالمستوصفات الشعبية عن زيارات عيادات الأطباء، بعدما دخل صندوق تعاضد القضاة في حالة عجزٍ عن تلبية فاتورة الاستشفاء بالدولار كما تحددها المستشفيات والعيادات الخاصة. أحد القضاة باع «بيانو» اشتراه لأبنائه يوم كان راتب القضاة يتراوح بين الـ2000 و5000 دولار. زميل آخر له لجأ إلى الدروس الخصوصية كمصدر دخلٍ رديف. تكثر الأمثال، وتكمن العبرة في التمييز بين أبناء السلك الواحد: بين من يؤمنون بضرورة استقلالية القضاء وإعلاء شأنه، ومن يحابون أصحاب القوة لا أصحاب الحق. لكن هل سيبقى من أصحاب حق فيما لو طال أمد الاعتكاف القضائي أكثر؟