على مشارف انقضاء الشهر الرابع من الاعتكاف القضائي، كثّف القضاة ولجنة متابعة المطالب وصندوق التعاضد البحث عن مخرجٍ من «ورطة» الاعتكاف، بعد تجاهل السلطة السياسية لهم ولمصالح الناس المعطّلة. البحث عن مخرج أخذ في الاعتبار، وفق مصادر قضائية، أن «آلية احتساب الرواتب على 8 آلاف ليرة ولّت إلى غير رجعة»، وأن سلفة الخزينة الأخيرة لصندوق التعاضد بقيمة 20 مليار ليرة، «لن تكفي لصرف مساعدات اجتماعية شهرية بالدولار الفريش بين (500 و1000 بحسب درجة القاضي) لأكثر من شهرين إضافيين». لذلك، تركّزت الجهود على «ديمومة مساعدات الصندوق وجدولتها لمدى زمني لا يقل مبدئياً عن ستة أشهر، ويشمل الترتيب أيضاً عطاءات الصندوق لتغطية جزء من نفقات الطبابة والتعليم». إدارة الصندوق من جهتها «قامت ببعض الخطوات والإجراءات الضامنة». بالتوازي ينتظر القضاة جداول وزارة المالية لرواتب الشهر الجاري لمعرفة ما إذا كانت ستتضمّن زيادة الرواتب وفق ما أقرّ في موازنة العام 2022 (ضعفا الراتب على أن لا تتعدى الـ12 مليون ليرة). والأمر الأخير الذي يراهن عليه القضاة يتعلّق بالموارد التي سيحصّلها صندوق التعاضد إذا ما سار بقرار رفع قيمة الطوابع والرسوم من 5% إلى 10% من قيمة الأموال المضبوطة لمصلحة الصندوق. وكانت إدارة الصندوق أخيراً بدأت بحسم 10% من قيمة الأموال المضبوطة لمصلحتها، لكن بعد اعتراض محامين اعتبروا الأمر مخالفاً للقوانين وبمثابة استيفاء رسوم من دون مسوّغ قانوني، خصوصاً أنّه لم يُقرّ في قانون الموازنة العامّة، عادت وخفّضته ليتناسب مع ما ينص عليه القانون. هكذا تكوّن المخرج المثلث الأضلع: زودة رواتب مؤقتة وفق الموازنة، ديمومة نسبية للمساعدات الاجتماعية وزيادة موارد صندوق التعاضد... لتبقى العبرة في التنفيذ إذا ما «صدقت الوعود وحسُنَت النوايا». وتفيد المصادر بأن «معالم الحلول والتنفيذ ستتضح قبل عيد الميلاد».هذا السيناريو وافق عليه أكثر من 95% من القضاة الذين لم يعودوا قادرين على الاستمرار في الإضراب ولا يملكون ترف التراجع فارغي اليدين حفاظاً على ماء الوجه. فيما لا تزال قلة تتحفظ وتثير إشكالية الوضع المزري لقصور العدل.
صيغة الحل هذه تنهي «حالة الضياع» التي كانت تسود صفوف القضاة بعدما أدارت السلطة ظهرها لهم تماماً، إذ انقسم هؤلاء ثلاث مجموعات. الأكثر تشدداً تربط العودة إلى العمل بالموافقة على صرف الرواتب وفق منصة «صيرفة»، والثقل الأساس في هذه المجموعة للقضاة الجدد. وبسقفِ مطالبٍ أدنى، هناك مجموعة أخرى كانت تقبل بصيغة الـ8 آلاف ليرة. أما المجموعة الأخيرة الأكثر واقعيةً أو يأساً - لا فرق - فلا تنتظر شيئاً. ومنذ حوالي الأسبوع شهدت العدليات فكاً جزئياً للاعتكاف مع اتساع مروحة القضاة الذين يسيّرون الملفات التي تحمل طابع العجلة، كملفات الموقوفين وسواها، في حال سمحت أحوال العدليات المنكوبة بذلك.
قلة من القضاة ترفض العودة إلى العمل بسبب أحوال العدليات المهترئة


إلا أنّ الاعتكاف لم يكن محصوراً بقيمة الرواتب، فصندوق تعاضد القضاة، الذي كان قبل الانهيار يغطي كامل الفاتورة الاستشفائية، ونسبة من النفقات التعليمية لعائلات القضاة، يرزح تحت العجز، ما انعكس تراجعاً في قيمة تقديماته. أزمة الصندوق على صعيد موارده، تتمثل في أن مساهمة الدولة فيه (10 مليارات سنوياً) لم تعدّل رغم خسارة الليرة لأكثر من 95% من قيمتها. وتغطياتها ما زالت تحتسب على 1500 ليرة، مقابل تكبّد القضاة لفروقات النفقات الطبية والتعليمية بالدولار الفريش وبالعملة الوطنية.
يعالج القضاة أزمتهم بمعزل عن مجلس القضاء الأعلى. وهم يأخذون عليه «تقاعسه» على مدى ثلاث سنوات ونيّف من عمر الأزمة. إذ لم يسع رئيس المجلس لتحسين أحوال العدليات ولا حماية حقوق قضاته بقدر انهماكه في وحول السياسة من باب انفجار المرفأ وسواه من الملفات. أما وزير العدل المربك فلن يحتاج إلى التصريح للمرة الثالثة عن موعد فك الاعتكاف. اجتهد السلك القضائي محاولاً ترتيب أوضاعه التي ستعود وتنفجر في لحظة ما. فلا هو القطاع الأول ولن يكون الأخير الذي يملأ فراغ السلطة غير الآبهة لضرورة الحل الشامل بحسب خصوصية كل فئة من العاملين في القطاع العام.