يشهد لبنان، بدءاً من اليوم، فصلاً جديداً من الخطوات التي تعكس الانهيار الذي أصاب مؤسساته كافة، وتشير إلى نوع الوصاية التي يريد الغرب ممارستها على اللبنانيين، بحجة عدم أهلية مؤسساتهم الرسمية ومسؤوليهم. والأكثر خطورة هو أن التدخل يتم من خلال بوابة القضاء.

منذ الإعلان عن نية وفود قضائية أوروبية القدوم إلى لبنان للتحقيق في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، برزت مواقف داخلية متضاربة. قسم غير قليل من الجمهور وبعض النخب رحب بالتدخل الخارجي، لا بل هلّل له، مبررين ذلك بتواطؤ القضاء اللبناني أو عجزه، وبأن القضاء الأوروبي أكثر جدية، وسيحقق نتائج عملانية لا يمكن القضاء اللبناني الوصول إليها.
من جهة أخرى، برزت أصوات، ليست كثيرة كما تظهر المؤشرات الإعلامية والعملانية، تحذر من خطورة فتح الباب أمام هذا النوع من الوصاية الغربية، خصوصاً أن لبنان سبق أن تعرض منذ سنوات طويلة، وخصوصاً منذ 17 تشرين الأول 2019، لأبشع أنواع التدخل من العواصم الأوروبية والغربية بقيادة الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا. كما أن مشكلة القضاء اللبناني لا تبرر تسليم البلاد وقضائها إلى جهات خارجية بمعزل عن هويتها، وهو ما يفترض أن يكون موقفاً مبدئياً، خصوصاً لدى أدعياء السيادة.
لكن واقع الحال أن من بيدهم الأمر لم يتصرفوا على هذا النحو. الحكومة اللبنانية ممثلة بوزارة العدل ومجلس القضاء الأعلى بوصفه أعلى سلطة قضائية والنيابة العامة التمييزية المعنية مباشرة بالأمر، ومن خلفهم الحكومة والقوى السياسية والمجلس النيابي، والنقابات المهنية والمراكز البحثية القانونية... كل هؤلاء لم يبادروا إلى أي موقف لمنع استغلال المشاكل اللبنانية الداخلية لفرض وصاية خارجية على القضاء. لا بل على العكس، سمح هؤلاء للسفراء الأجانب في لبنان بممارسة الضغوط والترهيب، وإلا كيف يمكن للسفير الألماني السيئ الذكر أندرياس كيندل التنقل بين مكاتب وزير العدل ورئيس مجلس القضاء والمدعي العام التمييزي لإعطاء أوامر مهدداً بعقوبات أوروبية ضد كل قاض أو موظف يعرقل التحقيقات في لبنان. والتهويل نفسه مارسه الفرنسيون وغيرهم، ما أدى إلى حال من الذعر في أوساط سياسيين وقضاة وحتى إعلاميين، وانتهت إلى «مخرج» لا يعطل الوصاية الخارجية على لبنان، ويعطيها شكلاً «لطيفاً» عبر «وجود» ممثل عن السلطات اللبنانية المعنية.
ولا يبدو أن الوصاية الآتية ستتوقف عند ملف رياض سلامة. إذ إن مراسلات الجهات الأوروبية تضمنت أسماء قضاة تحقيق لا يعملون في ملف حاكم مصرف لبنان، خصوصاً في المراسلة الفرنسية التي تضمنت اسم قاضي التحقيق الفرنسي في جريمة تفجير مرفأ بيروت، والذي طلب تحديد موعد له (في 24 الجاري) مع المحامي العام التمييزي صبوح سليمان المكلف من النيابة العامة الإشراف على ملف التحقيقات في المرفأ. ولم يعرف ما إذا كان القاضي الفرنسي قد طلب أيضاً موعداً للاجتماع مع القاضي طارق البيطار، علماً أن الأخير استقبله في 27 أيار الماضي برفقة مندوب عن النيابة العامة الفرنسية. وطلب الفرنسيون يومها الاطلاع على تحقيقات البيطار الذي رفض التجاوب، وأبلغهم بأن التحقيقات سرية وعندما ينتهي منها ويعدّ قراره الظني يحق لهم الاطلاع عليها من خلال النيابة العامة.
الوقائع لا تشير بالتحديد إلى ما يريد القاضي الفرنسي، لكن منطق الأمور يشير إلى أنه يقوم بعملية جس نبض، في ضوء موافقة لبنان على فتح الأبواب أمام تدخل كبير للقضاء الأوروبي في قضية سلامة. وهو هنا يجرب حظه، فربما يحصل أيضاً على تغطية لتولي تحقيقات إضافية في ملف المرفأ من دون أن يعرف لبنان شيئاً عما يقوم به.
عملياً، يبدو وكأن الجانب الأوروبي يريد إضفاء شرعية على عمله في لبنان بطريقة ملتوية. برر البعض في بيروت فتح الأبواب بأن الوفود ستعمل تحت إطار المعاهدة التي أقرتها الأمم المتحدة عام 2003 ودخلت حيز التنفيذ عام 2005، والتي انضم إليها لبنان عام 2008 بموجب القانون الرقم 33 الذي صدقه مجلس النواب عام 2008. وباتت ملزمة للبنان. لكن المعاهدة المذكورة تقول بأنه في حالة كالتي أمامنا اليوم، فإن أي طلب تعاون قضائي من دولة أوروبية إلى لبنان، يفترض أن يقوم وفقاً للقوانين اللبنانية وبما لا يتعارض معها. كما تجيز المعاهدة للبنان أن يرفض الطلب الأوروبي طالما أنه يقوم بالتحقيقات في الجريمة نفسها. وبالتالي نعود إلى أصل المشكلة؟
في وقت سابق، أنهى القاضي جان طنوس التحقيقات الأساسية في قضية الاختلاس وتبييض الأموال التي يشتبه أن حاكم مصرف لبنان قام بها بالتعاون مع شركاء في لبنان وخارجه. ومع أن القاضي تعرض للتعطيل والعرقلة مراراً من السلطات السياسية، كما حصل يوم طلب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي من النائب العام التمييزي سحب طنوس من أحد المصارف مهدداً بالاستقالة، إلا أن الأخير وغيره ممن عملوا في إدارة الملف، استخدموا عملياً التهويل الغربي والأوروبي على لبنان لإجبار مصرف لبنان والمصارف على تسليم القضاء اللبناني الكشوفات الخاصة بحسابات رجا سلامة شقيق رياض سلامة. وهي الكشوفات التي تشرح بصورة مفصلة مصير 200 مليون دولار جرى تحويلها من الخارج إلى لبنان وتم تسييلها بطرق مختلفة وعبر حسابات مختلفة وبمشاركة آخرين عبر النظام المصرفي. وهي جزء من الأموال التي يشتبه القضاء في أن سلامة اختلسها عبر شركة «فوري».
وبدل أن يستكمل طنوس التحقيقات من خلال البحث في هذه الحسابات، تلقى طلباً من عويدات بأن يعد الادعاء ويرسله إليه، ليطلب من أحد العاملين معه الادعاء على سلامة. وبالتالي ضم كشوفات حسابات رجا إلى الملف. بالفعل، أحال عويدات الملف إلى القاضي زياد أبو حيدر الذي خالف القانون ورفض الادعاء ثم طلب إعفاءه قبل أن يتنحى، ومن ثم ضاعت المسؤولية. وفيما كان في إمكان عويدات تكليف قاض آخر بالمهمة، تؤكد أوساطه أن أي قاض لم يقبل بهذه المهمة، بينما لم يطلب هو من القاضي طنوس الادعاء، من دون تفسير لهذه الخطوة، علماً أن أوساطاً قريبة من الرئيس السابق ميشال عون أشارت إلى أن منع طنوس من القيام بالمهمة جاء نتيجة طلب مرجعيات سياسية.
عملياً، ما حصل هو أن لبنان عطل التحقيق في ملف سلامة وترك الأمر للخارج.
في ملف المرفأ، حصل ما هو أكثر خطورة، إذ إن السلطات القضائية المعنية لم تبادر إلى حماية التحقيق بل عملت على حماية القاضي المحقق. علماً أن البيطار يفترض أنه يطبق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء، مثله مثل أي قاض آخر. وبدل أن يعمد مجلس القضاء بالتعاون مع وزارة العدل إلى إيجاد حل لمشكلة الريبة في عمله، من خلال تكليف قاض آخر بالمهمة، عمد إلى تعطيل الملف برمته، واستغل العراك السياسي حول الملف لوقف التحقيقات، ثم عمد مجلس القضاء إلى استجرار ضغوط خارجية لإرغام الآخرين على السير في عمل البيطار وإسقاط كل التحفظات عنه. بالتالي، فإن مجلس القضاء انتهى كما في ملف سلامة إلى تعطيل التحقيق وإلى فتح الباب أمام الخارج لتولي المهمة وحده أو تحت وصايته.
وبمعزل عن كل كلام سيقال عن أن رفض دور القضاء الخارجي هو تبرير للمجرمين للإفلات من العقاب، سواء في ملف سلامة أو ملف المرفأ، فإن مراجعة لآلية تبادل المعلومات مع القضاء الأوروبي والدولي في الملفين، تشير إلى ما يعزز الشكوك في الأهداف الفعلية للتدخل القضائي الخارجي. إذ حتى اللحظة، لم يحصل لبنان بعد على أي مادة خاصة تحدث فرقاً في المعلومات الموجودة في الملف اللبناني الخاص بمرفأ بيروت.
أما في ملف سلامة، فإن القضاء الأوروبي رفض التعاون الجدي. إذ بينما قدم لبنان كل ما هو موجود من نتائج تحقيقات (ما عدا كشوفات رجا سلامة ومعلومات أخرى قليلة) فإن الأوروبيين لم يبادروا إلى تسليم لبنان أي معطيات خاصة حول التحقيقات الجارية في أوروبا. بل تم اطلاع لبنان على خلاصات لبعض التحقيقات، كما اطلع لبنان من الإعلام على إجراءات قضائية اتخذت بحق المشتبه فيهم.

هل تم اتخاذ إجراءات بحق شركاء سلامة من العاملين في مصارف أوروبية في فرنسا وسويسرا وألمانيا ولوكمسبورغ؟


وبما أن الملف يتعلق بعمليات تبييض أموال في أوروبا، ويشتبه في أن سلامة اختلسها من لبنان، قامت الجهات الأوروبية بالتحقيقات مع المصارف الأوروبية المعنية وعددها ليس بقليل، فهل تم استدعاء أو اتخاذ إجراءات بحق شركاء سلامة من مصرفيين وسواهم من العاملين في مصارف أوروبية رفيعة في فرنسا وسويسرا وألمانيا ولوكمسبورغ؟
عملياً، ما يحصل هو نتيجة طبيعية للإرباك (إن لم يكن أكثر) من جانب لبنان والسلطات المعنية فيه، سياسية كانت أو قضائية أو حتى مدنية. وبذلك يجري تخيير اللبنانيين بين تعطيل متعمد للقضاء اللبناني في ملفي سلامة والمرفأ، بما يزيد قناعة الناس بعدم إمكان تنفيذ العدالة في لبنان، وبين فتح الأبواب أمام وصاية، بل استعمار قضائي خارجي سيقوم بما يتجاوز المصالح اللبنانية، وهو يمثل جهات تريد من لبنان الكثير.
معلوم أن السياسيين المسؤولين في الدولة يتحملون المسؤولية الرئيسية عما يجري. لكن، لا يمكن إعفاء الجسم القضائي بكل مستوياته، وكذلك نقابة المحامين ودعاة السيادة، وأصحاب الرأي القانوني الحر، من مسؤولية تسهيل هذا الاستعمار المهين. تكفي الإشارة، بالشكل، إلى أن التحقيقات الأوروبية ستجرى في قاعة محكمة التمييز، وهي أعلى محكمة لبنانية، حيث سيجلس قاضي تحقيق على منصة لا تطابق حالة التحقيق مع شاهد أو مشتبه فيه أو مدعى عليه، بل تصلح للمحاكمات فقط. وإلى جانب ذلك، سيقبل القضاء اللبناني الإهانة بأن يكون مستمعاً أو مترجماً أو ناقلاً للكلام بين قضاة ومحققين جنائيين أجانب وبين مواطنين لبنانيين.
على أن هناك أمراً أخيراً، يتجاهله المعنيون، وهو أن الاستعجال الأوروبي لإتمام التحقيقات قبل الادعاء اللبناني، سيتيح للجهات القضائية الأوروبية الإسراع في إعداد المحاكمات وإصدار الأحكام بحق المدانين المحتملين، وهذا في حال حصوله، سيعرّض اللبنانيين لسرقة أموالهم مرتين، مرة عندما أخذها سلامة ومرة عندما أخذها الأوروبيون، لأن القانون الدولي يتيح لهم مصادرة الأموال طالما هم من تولى القضية ووصل بها إلى خواتيمها.