حين كان يُسأل عن لبنان في أروقة الإدارة الأميركية، في السنوات القليلة الماضية، وتحديداً منذ عام 2018، كان الجواب غير الرسمي شبه الموحّد بأنه ليس على الرادار الأميركيّ اليوم. وتزامناً مع اعتماد واشنطن استراتيجية الأرض المحروقة التي تضعف أصدقاءها أكثر من خصومها (من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة إلى القطاع المصرفي والمحتكرين الأساسيين في القطاعات التجارية والاستشفائية والتعليمية)، لم يكن لدى السفراء هنا ما يفعلونه سوى توزيع الكمامات في الشارع وإنتاج إعلانات تلفزيونية ولعب دور السكرتاريا لدى ديفيد شينكر في إدارته للمجموعات «التغييرية»، ولدى عاموس هوكشتين في إدارته لملف الترسيم. ففي هذين الملفين الأساسيين لواشنطن، تحرّكت الإدارة الأميركية بشكل مباشر، وكان دور دوروثي شيا أقل بكثير من دور موظفة متدرّبة. علماً أن في العاصمة الأميركية من يتحدث عن إعجاب بتسيير شيا أمور السفارة من دون استراتيجية واضحة، وأن تكليفها بمَهمة نائبة رئيس البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة ترفيع لها.

إبلاغ واشنطن الخارجية اللبنانية بأن خليفة شيا ستكون ليزا جونسون، يعني أن تغييراً كبيراً يطرأ على المقاربة الأميركية للبنان. فجونسون لا تشبه إليزابيت ريتشارد ودوروثي شيا ومورا كونيلي وميشال سيسون، إذ إنها تملك أكثر من كلمة سر، وترتبط بغرف صناعة القرار في الإدارة الأميركية. وهي تنقّلت بين مواقع حساسة في العالم، من أفريقيا حيث يحتدم الصراع الأميركي - الصيني، إلى بروكسل حيث كانت مندوبة بلادها في مكتب الأمين العام لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). وداخل الولايات المتحدة عُينت مديرة لمجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط منذ عام 2001، ومديرة لمكتب إسرائيل السياسي - العسكري في مكتب شؤون الشرق الأدنى في الخارجية، ومراقبة في مركز العمليات في مكتب شؤون الشرق الأدنى، ونائبة لقائد الكلية الحربية الوطنية الأميركية ومستشارته للشؤون الدولية، ومديرة مكتب أفريقيا والشرق الأوسط في «مكتب الشؤون الدولية لمكافحة المخدّرات وإنفاذ القانون».
وتعرف جونسون لبنان جيداً، إذ خدمت في سفارة بلادها في بيروت بين عامي 2002 و2004. ولديها أيضاً صداقاتها وعلاقاتها مع مستويات لبنانية متنوّعة.
جونسون (التي ستكون بمثابة قائمة بالأعمال إلى حين انتخاب رئيس للجمهورية) لم تتحدث طوال حياتها أمام الإعلام بقدر ما تتحدث شيا في يوم واحد؛ وهي لا تملك صفحات خاصة باسمها الحقيقي على مواقع التواصل الاجتماعي، ولا تقوم ببطولة إعلانات على تلفزيونات الدول التي تخدم فيها.

تملك جونسون أكثر من كلمة سر وترتبط بغرف صناعة القرار في الإدارة الأميركية


مقابل غرام الأخيرة شبه المرضي بالإعلام، الافتراضي والتلفزيوني، وبتطبيل صفحات جمعيات المجتمع المدني المعتاشة على فتات سفارتها لها، يبين البحث عن جونسون أنها أكثر حذراً وانتقائية، وأشد اهتماماً بالمضمون الأمني - السياسي المباشر. ما تحكّم بأداء شيا كان عقلاً إعلامياً - إعلانياً أراد تعويض التراجع الأميركي على أرض المنطقة بالحضور الافتراضيّ، فيما العقل الذي يتحكّم بأداء جونسون أمني - عسكري بامتياز. فهي ليست مديرة مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط فقط، إنما أيضاً مديرة مكتب إسرائيل في الخارجية، ونائبة قائد الكلية الحربية الوطنية الأميركية ومديرة مكتب أفريقيا والشرق الأوسط في «مكتب الشؤون الدولية لمكافحة المخدّرات وإنفاذ القانون»، ومندوبة الولايات المتحدة لدى الناتو.
مقابلات جونسون القليلة الموجودة على «يوتيوب» ومواقع التواصل ترجّح أنها ستكرر في كل المناسبات استخدام العبارات الجاهزة نفسها، كـ«محاربة الفساد لا تتعلق بالعمل الحكومي فقط، إنما بالدفاع عن النفس، وتعزيز الديمقراطية، وتأمين العدالة الاقتصادية»، و«لا يتعلق الأمر بالفساد الحكومي على المستويات العالية فقط، إنما بالفساد على جميع المستويات»، و«وظيفتنا دعمكم وتشجيعكم»، و«عملنا مع المجتمع المدني مهم جداً». ستشكل هذه العبارات أساس المواقف التي ستكررها جونسون، من دون أيّ زيادة أو نقصان. لكن الأهم هو العبارة التالية: «فخورة بالعمل مع شركاء الولايات المتحدة بتنشيط التدريب وبمشاركة المعلومات».
لـ«مشاركة المعلومات» حيز مهم في خطاب جونسون: مكافحة المخدّرات تحصل من خلال «مشاركة المعلومات»، ومكافحة الفساد تمر بـ«مشاركة المعلومات»، ولو من طرف واحد، إذ يفترض بالمواطن والقاضي ورجل الأمن أن يستسهلوا حمل الهاتف والاتصال بشركاء السفارة الأميركية لمشاركتهم المعلومات. ولن تنسى جونسون في مقابلاتها تكرار أنها «تتعلم منكم الكثير عن ثقافتكم الغنية»، وتتطلع دائماً لبناء «مجتمع ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان ويقاتل الفساد ويحترم سيادة القانون»، مكرّرة «حركات» شيا في ما خصّ الغزل الدائم بالمناخ والمحميات ومذاق التبولة والكبة النية. وفي ظل حماستها للـ«هايكنغ»، يفترض أن تشهد المتاجر ارتفاعاً في مبيعات الأحذية الخاصة بهذه الرياضة. علماً أنها، خلافاً لشيّا، أكثر سرعة في إيصال الفكرة، وتوحي بأنه يمكن الوثوق بها. وهي، بالطبع، ما كانت لتتقدم نحو كل هذه المناصب لو لم تكن جدية جداً في عملها.
جونسون من مواليد واشنطن عام 1967. بعد نيلها إجازة في العلوم السياسية من جامعة ستانفورد، تخصّصت بالشؤون الدولية في جامعة كولومبيا، قبل أن تكمل دراستها في «استراتيجية الأمن القومي» في National War College. دخلت السلك الدبلوماسي الأميركي عام 1992، وتشغل منصب كبيرة مستشاري جنوب ووسط آسيا في مكتب نائب الرئيس الأميركي، مديرة مجلس الأمن القومي لشؤون الشرق الأوسط منذ عام 2001، ونائبة مدير مكتب الشؤون الكندية، خدمت في لبنان بين عامي 2002 و2004 حين كان فانسنت باتل سفيراً لبلاده في بيروت، وشهدت عملية التسلّم والتسليم بينه وبين خلفه جيفري فيلتمان، وهي تشبه باتل في الشكل الهادئ غير المتطلّع إلى الأضواء، وفيلتمان في المضمون. علماً أن مجرد اختيارها لقيادة غرفة العمليات الأميركية في بيروت يوحي بأن الإدارة الأميركية تجاوزت مرحلة المراوحة نحو الحسم الذي نادراً ما يكون لمصلحتها.