لا يمكن المرور بتجاهل أو لامبالاة على هامش مواقف الثلاثي «المستقبلي» الطرابلسي ــــ العكاري. فهي ستظل نقطة قياس لكتابة التأريخ السياسي للمرحلة الراهنة. تماماً كما كانت مواقف المفتي الراحل حسن خالد في كتابه الشهير «المسلمون في لبنان والحرب الأهلية». أو كما ظل البعض يتذرّع طويلاً بالاستشهاد بالمقال الشهير لمدير دار الإفتاء في ذلك الزمن، الدكتور حسين القوتلي، حول الموقف الفقهي للمسلم من النظام في لبنان.
علماً أن التفسيرات الأولية، والسطحية ربما، لمواقف الثلاثي المذكور، تحاول جعلها بين احتمالات ثلاثة: أولاً، أن تكون من نوع توزيع الأدوار داخل الفريق السياسي الواحد. وهو أمر، في حال صحته المشكوك جداً في نسبتها وحظوظها، ينعكس سلباً على صدقية هذا الفريق وقيمة موقفه الفعلي وحقيقة التموضع المبدئي الذي اتخذه في المعركة الراهنة. فإذا كان الثلاثي المذكور جزءاً من لعبة طرابيش «مستقبلية»، عندها لا معنى لموقف سعد الدين الحريري ولا وزن ولا فعل. وهذا ما يدفع المراقب إلى استبعاد هذا الاحتمال. ثانياً، أن تكون تلك المواقف المتمايزة حتى التناقض، انعكاساً لتعدد المرجعيات الخارجية الممسكة بالملف اللبناني في عاصمة معينة. وثالثاً أن تكون مجرد حالة موضعية عنوانها الاستثمار الشعبي في قواعد الفريق «المستقبلي». وهو ما يطرح إشكالية مفارقة. فالحريري نفسه يؤكد أن تياره هو تيار الاعتدال في شارعه. ومسؤولوه الحزبيون في الشمال يطمئنون ويطمئنون دوماً إلى استطلاعات رأي جدية موثوقة، لا تعطي الأصوليين شمالاً أكثر من نسبة 6 أو 7 بالمئة من شارعهم. بينما، في المقابل، يعترف أحد ابرز وزراء «المستقبليين» الحاليين بأن الثلاثي المقصود قد بنى شعبية شمالية هي الأوسع في فريقهم، «من دون قرش ولا مصرية»، وذلك بمجرد استثمار مواقف متشددة كهذه. ما يطرح سؤالاً على قيادة التيار «المستقبلي» نفسه: هل قاعدتكم معتدلة فعلاً؟ أم أن المواقف المتطرفة تشدّها وتجذبها؟ إشكالية تبدو غير محلولة. ويبدو أنها تتحكم في الكثير من ظواهر السياسة والشأن العام في لبنان اليوم. والأهم أنها إشكالية موجودة كذلك في حرفيتها لدى كل القوى الحزبية الأخرى وفي الشوارع المذهبية كافة.
لكن الأهم في مواقف الثلاثي نفسه، هو قراءتها في ضوء معطيات ووقائع أكثر خطورة وتداعياً: سياسياً وأمنياً وحتى عقائدياً.
في البعد السياسي، يدرك مفكرو التيار «المستقبلي»، انها ليست المرة الأولى التي يتوهّم البعض في لبنان بأنه قادر على ركوب صهوة سلاح خارجي، من أجل مزيد من السلطة الداخلية. هي نظرية الاستقواء الشهيرة التي حكمت سياسات البلد، كما دمرته. وما قام ويقوم به الثلاثي نفسه، قد يكون محاولة ثالثة في هذا السياق، لن تكون ثابتة ابداً، وتذكّر بلا شك بتجارب سابقة. منها تجربة ركوب السلاح الفلسطيني منذ النصف الثاني من الستينيات. نظرية الاستثمار في مقولة «فتح لاند» جنوباً، من أجل فرض موازين مختلفة في معادلة حكم بيروت لاند وسطاً وقلباً. يوم كانت قاعدة أن حكم كل لبنان يختصر بمن يمسك بعاصمته. وهي التجربة التي كانت عنصراً من عناصر تفجير البلد سنة 1975. لكن الأهم أنها انتهت إلى أن من توهّم الربح خرج من المعركة خاسراً أكبر. بدليل مقولة أبو عمار الشهيرة عشية اتفاق أوسلو، بأن تجاربه في حكم الدول قد بدأت في بيروت. ومع ذلك تكررت التجربة نفسها مع السلاح السوري. فالانقلاب على اتفاق الطائف بعد العام 1990، لم يكن ليحصل لولا استعادة نظرية الاستقواء بعضلات الشام لحكم بيروت. هي معادلة الرقص مع الشيطان مجدداً، التي توهّم البعض أيضاً أنه نجح فيها طيلة عقد ونيف، قبل أن يسقط صريعها، فينفجر البلد مجدداً. وهي تجارب لا ضير في عرضها ولا عيب في سردها. فهي لا تشكل اتهاماً لفريق دون سواه. ذلك أن الجميع في البلد قد سقط فيها وجرّب رقصات مماثلة مع «شياطين» أشد أبلسة ثلاث مرات وأكثر. من الرقص مع سلاح صدام إلى سلاح الأسد قبله وبعده، وصولاً حتى إلى سلاح شارون نفسه. من دون إغفال تجارب الرهانات المارينزية، من ايزنهاور إلى ريغان.
لكن الأهمية القصوى لاستقلال 2005 وما بعده، أنه يفترض أن يكون قد شكل درساً وأمثولة وعبرة للجميع من دون استثناء، في عدم العودة إلى مهالك الاستقواء بسلاح الخارج. فكيف والحال الراهنة هي الأخطر على الإطلاق، كونها تحاول ركوب الجنون المطلق، بالاستقواء بسلاح تكفيري. فإذا كانت تجربة استخدام السلاح الفلسطيني كادت تضيّع لبنان وفلسطين، وإذا كانت تجربة الاستقواء بالسلاح السوري انتهت بغدر اشخاص بعد موات بلد، فإن محاولة الرهان على سلاح تكفيري لكسب سلطة لبنانية، إنتحار جماعي أكيد وإبادة شاملة حتمية. وهو ما يفترض أن يكون سعد الدين الحريري أكثر المدركين له. إذ لا أعباء سابقة على كتفيه من سقطات ماضية. ولا جموح طغيانياً أو استبدادياً في شخصه وحزبه. فلماذا لا يحسم تلك الإشكاليات؟!
يبقى لقراءة موقف الثلاثي الشمالي نفسه بعدان، أمني وعقائدي. البعد الأمني متروك للأجهزة الباحثة عن «أمير ولاية وادي خالد»، ولا نزيد. أما البعد العقائدي فمتروك بحثه لزمن أقل غرائزية وغددية وبربرية إيمانية وإلهية!