قبل عام، في آذار 2022، قدّمت وزارة الخارجية اقتراحاً إلى مجلس الوزراء بشأن إقفال بعض السفارات والقنصليات في إطار إجراءات عصر النفقات، في ظل تراجع ميزانية الوزارة وعدم قدرتها على تلبية حاجات البعثات ورواتب السفراء. غير أن المماحكات السياسية حالت دون مناقشة الاقتراح الذي اطّلعت «الأخبار»، أخيراً، على تفاصيله. ويتضمّن الاقتراح إغلاق قنصليتين في أوروبا الغربية (ميلانو ومرسيليا)، وثلاث سفارات في أوروبا الشرقية (أوكرانيا، بلغاريا وتشيكيا)، وخمس في أميركا اللاتينية (التشيلي، الأوروغواي، الإكوادور، الباراغواي وكوبا)، وقنصلية في ريو دي جانيرو (البرازيل)، وسفارتين في آسيا (ماليزيا وكازاخستان)، وأربع سفارات في دول عربية (البحرين، اليمن، السودان وليبيا).في معايير الاختيار، اعتمدت الخارجية وفق ما جاء في نص اقتراحها، على: أهمّية العلاقات السياسية والتقارير الواردة من البعثات، مشاركة الدولة المضيفة في قوات الـ«UNIFEL»، عدد أبناء الجالية التابعين لصلاحية البعثة، الجدوى الاقتصادية للبعثات، وحجم التبادل التجاري بين البلدين. وقد وضعت اللائحة بعد دراسة تقييم للنفقات وللمردود المالي والسياسي للبعثات. وفي النصّ، فقرة عن الوفر الأولي المتوقّع من عمليات الإقفال بعد مرور خمس سنوات، يقدّر بحوالي 15.5 مليون دولار. علماً أن مجموع واردات البعثات الـ17 عن السنوات الثلاث (2018 و2019 و2020) يبلغ حوالي 1.8 مليون دولار، فيما بلغ مجموع نفقاتها عن الفترة نفسها 15.1 مليون دولار، بالتالي فإن قيمة العجز تبلغ 13.3 مليون دولار. اللافت، على ذمّة الخارجية أن بعض الجاليات اللبنانية ومنها في البحرين وبلغاريا، أبدت رغبتها بتأمين النفقات التشغيلية للبعثة تداركاً لخطوة الإقفال، ما يدفع باتجاه إعادة النظر بتعليق العمل فيها. وما إن يعطي مجلس الوزراء موافقته ستعيّن الخارجية سفيراً غير مقيم يغطي منطقة صلاحية البعثة المعلّق عملها من حيثُ يعمل، إضافة إلى إمكانية تعيين قناصل فخريين لتأمين الاحتياجات القنصلية المطلوبة.
يتضح مما سبق أن اقتراح «الخارجية» ارتكز على معيار أساسي يتعلق باحتساب النفقات والواردات، تحت ضغط واقعٍ مالي جعلها تُحافظ على ديمومة بعثاتها واستمرارية عملها بأقصى طاقة ممكنة عن طريق التمويل الذاتي، وليس من دولارات مصرف لبنان المُحجِم عن تأمين النفقات التشغيلية للبعثات باستثناء رواتب الديبلوماسيين حصراً. في حين أن على مجلس الوزراء النظر إلى المشهد بكلّيته، وعدم ترك أمر المُعالجة لقدراتِ الوزارة الخاصّة، ما يستدعي حين يُطرح الملف على طاولة مجلس الوزراء عدم حصر النقاش في البعد المالي، وإعادة النظر في عددِ البعثات أو هويتها.
الخضوع للمعيار المالي فقط يوجه رسائل خاطئة في السياسة وإلى الجاليات


وفي هذا السياق، تبدي جهات متابعة ملاحظات جوهرية على إقفال نصف سفارات لبنان (3 من أصل 6) في كل أوروبا الشرقية، حيث تتبقى فقط سفارات بولونيا ورومانيا والمجر. أما في آسيا، فإن اقتراح إغلاق السفارة في كازاخستان «رسالة غير موفّقة في سياسة لبنان الخارجية»، كون كازاخستان الدولة الإسلامية الوحيدة في منطقة القوقاز التي توجد فيها سفارة لبنانية. كما أنّ إقفالها سيحصر العمل الديبلوماسي في كل منطقة القوقاز في سفارة لبنان في أرمينيا، وهو «أمر غير منطقي، تماماً كطرح إغلاق 5 سفارات وقنصلية عامة في أميركا اللاتينية، حيث الاغتراب الكبير والتاريخي».
مع الإقرار بالفارق بين النفقات والإيرادات، إلا أن المعيار المالي ليس وحده كافياً لاتخاذ قرار الإقفال. في وجهات النظر المطروحة أن «لا ضرر» في أن تحقق سفارة ما وفراً عالياً مقابل عجز في أخرى، و«تكمّل إيرادات السفارات بعضها»، إذ «ليست مهمة البعثات تأمين واردات، بل تقديم خدمات قنصلية وتسهيلها بالدرجة الأولى للمكون الاغترابي الآخذ بالتزايد». وينطلق أصحاب الرأي من أن هذا الدور هو «جزء من عمل الدولة كتأمين الكهرباء والمياه و...»، وتالياً المعيار المالي «لا يُفترض أن يكون هو الحاسم، حتى وإن فرضت الضائقة المالية سطوتها، لأن القنصل الفخري لا يمكنه التدخل بحصانة قضائية في إشكالات عادة ما تحصل ويكون تدخّل السفارة فيها له وزنه». لذلك، المطلوب مراجعة لائحة «الخارجية» لمزيد من التدقيق بهدف تفادي الرسائل الخاطئة في السياسة ولدى الجاليات.



فضيحة مالية في سفارة لبنان في أوكرانيا
في شباط الماضي، قرّرت وزارة الخارجية والمُغتربين تعليق العمل في سفارة لبنان في كييف لإنهاء «النزيف المالي»، وأرسلت موفداً لمدة 15 يوماً أنهى دفع المُترتِبات المالية على السفارة من رواتب وتعويضات للعاملين فيها والمستحقات المتوجبة لأصحاب المبنى المُستأجر وفضّ العقود معهم. غير أنّ الإقفال المؤقّت لم يأتِ حصراً على خلفياتٍ تقشّفية أو لأسبابٍ تتعلّق بالحربِ في أوكرانيا. إذ تؤكد مصادر أن خلف السِتار فضيحة اختفاء مبلغٍ يُقدّر بمئاتِ آلاف الدولارات، اكتُشفت في تشرين الأوّل الماضي، ما دفع الوزارة إلى استدعاء السفير والمحاسب المسؤول وفتحِ تحقيقٍ داخلي مالي وإداري. وتفيد المعلومات بأنّ الملّف أُحيلَ إلى القضاء المختّص، وأعطت «الخارجية» أذونات بملاحقة من يثبت تورّطهم.
شكّلت الحادثة مناسبة لبدء مُقاربة موضوع السفارة ككل، وجدوى استمرار العمل فيها، خصوصاً أن مصادر متابعة تؤكد أنّ مرحلة إدارة الأزمة المُرتبطة بالحرب الروسية- الأوكرانية «انتهت»، إذ إنّ «معظم أفراد الجالية اللبنانية غادروا أوكرانيا، ولم تكن السفارة قبل تعليق العمل فيها قد تلقّت أي طلب استغاثة من القلة المُتبقّية التي تؤمن مسالِك خروجها من أوكرانيا إلى الدول المحيطة». وقد أعطت الخارجية تعليمات إلى سفارتي لبنان في بولونيا ورومانيا لإنجاز المعاملات التي كانت تصدر عن سفارة أوكرانيا. قرار تعليق العمل عزّزه «انتقال القسم الأكبر من العاملين في السفارة إلى الدول المجاورة هرباً من الحرب، ما جعلها فعلياً من دون فريق عمل»، وعندما استجدّت القضية المالية واستُدعي السفير إلى بيروت، حُسم القرار بالإقفال المؤقت كـ«تدبير لمعالجة ملف إداري وواقع ميداني فرض نفسه، وليس إقفالاً تاماً، كون القرار يحتاج إلى موافقة مجلس الوزراء»، علماً أنه في حالات مُشابهة شهدتها بعثاتٌ أخرى، «اكتفت الخارجية باتخاذ التدابير، ولم تذهب باتجاه إقفال السفارات».