في خطوة غريبة، أصدرت السفارة الأميركية في بيروت أول من أمس بياناً تفصيلياً أعلنت فيه أن الأمم المتحدة ستبدأ، في 18 نيسان، صرف 16.5 مليون دولار، كدعم ماليّ مؤقت لعناصر قوى الأمن الداخلي، بقيمة 100 دولار شهرياً لكل عنصر لمدة ستة أشهر، مشيرة في بيانها - الطويل المملّ - إلى التمويل الأميركي لهذا البرنامج.ومع الاستثمار الأميركي الكبير في وسائل الإعلام اللبنانية، احتفت الأخيرة بالخطوة الأميركية «العظيمة». لكن التدقيق، بعيداً من الاستسلام للدعاية الأميركية، يظهر أن عدد المستفيدين من البرنامج يبلغ 27500 شخص، فيما عدد المستفيدين من البرنامجين الخاصين بوزارة الشؤون الاجتماعية مثلاً («أمان» و«الأسر الأكثر فقراً») يبلغ 146843 شخصاً، أي أكثر من خمسة أضعاف. مع ذلك، لم تبادر الدول المانحة في برنامج الأسر الأكثر فقراً (كندا، إيطاليا، فرنسا، النروج، ألمانيا، إيرلندا) إضافة إلى منظمة الغذاء العالمي والاتحاد الأوروبي بإصدار بيان احتفالي مماثل. أما إذا كان الهدف من الطبل والزمر الأميركيين تسجيل نقطة في مرمى خصوم الولايات المتحدة، يتقدمهم حزب الله، فإن السفارة نفسها تعترف في تقاريرها الدورية بأن الأخير ينفق اجتماعياً وصحياً وغذائياً عشرات أضعاف هذا الرقم.
ما فعلته السفارة الأميركية أخيراً أقل بكثير مما تفعله منذ أكثر من عشر سنوات مع جمعيات مغمورة من منظمات المجتمع المدني التي تبلغ موازناتها السنوية لدى المؤسسات الأميركية نحو 600 مليون دولار، وما تخصصه للعنصر في قوى الأمن الداخلي لا يصل إلى نصف ما تصرفه للاجئ السوري. كما أن القرار الأميركي سيكون موضوع مساءلة لوزارة الخارجية أمام الكونغرس بسبب اتهامات وجهها البيت الأبيض سابقاً إلى قوى الأمن الداخلي باستخدام العنف في قمع الاحتجاجات الشعبية. ولم يتضح بعد كيف ستبرر الإدارة الأميركية دفع أموال أميركية لموظفين لبنانيين لن يوقعوا على البنود التي يلزم الأميركيون عادة كل من يريد الاستفادة من أموالهم أو منحهم التعليمية بالتوقيع عليها. لذلك كله، فإن السؤال الرئيسي هنا هو: بعد كل ما سبق، لماذا تصدر السفارة بياناً مماثلاً وتوعز لوسائل الإعلام الممولة منها بالاحتفاء به؟
التقدير المنطقي الوحيد هو حاجة واشنطن المتزايدة إلى إقناع اللبنانيين بأنها تبذل جهداً للحفاظ على المؤسسات الرسمية والحؤول دون انهيارها. فبعيد دخول حزب الله على خط تأمين الفيول، سارعت السفيرة دوروثي شيا إلى ارتكاب واحدة من أبرز حماقاتها حين كشفت بالصوت والصورة عن منع بلادها على مدى أكثر من ست سنوات استجرار الغاز من مصر والأردن لتأمين الكهرباء، والتزمت أمام وسائل الإعلام برفع حصار الغاز لتأمين الكهرباء، قبل أن تنكشف الأكاذيب ويتواصل الحصار الكهربائي... مع فارق أساسي هو انفضاح المعرقل الحقيقي، واكتشاف المواطن العادي أن علاقات حزب الله مع المرجعيات السياسية العراقية تسمح بتأمين بضع ساعات تغذية يومية، فيما تواصل واشنطن اختراع العراقيل.
الأهم من الدفع أن تعرف لمن تدفع وأين وكيف ومتى ولماذا؟


رغم السطوة والفجور الإعلاميين، يؤكد أداء السفيرة الأميركية الإعلامي تعاظم الحاجة الأميركية إلى إقناع اللبنانيين بأن واشنطن جزء من الحل لا المشكلة، وهو ما يدفعها إلى التلطي خلف مبادرات مماثلة، وكأن عناصر قوى الأمن لا يعرفون أنها تقف وراء الطبقة السياسية التي غامرت بأموالهم وتحمي حاكم المصرف المركزي والمصارف التي بددت ودائعهم، لتعود اليوم وتحاول شراءهم بمئة دولار شهرياً.
إن انتقال الولايات المتحدة من الإنفاق المزاجي بالمفرق وعبر الوسطاء الخليجيين غالباً إلى إنفاق منظم مباشر للمؤسسات الرسمية اللبنانية سيف ذو حدين؛ فهو يظهر الولايات المتحدة أمام بعض البسطاء بمظهر الحريص على الموظفين المساكين، لكنه يدخلها في الوقت نفسه في مستنقع سبق لمصرف لبنان أن أغرق ودائع اللبنانيين فيه، حيث ستكر سبحة البرامج، واحداً تلو الآخر، على نحو يجعل من استمرارية هذه المؤسسات مسؤولية أميركية. يكفي في هذا السياق أن تعلن الولايات المتحدة وقف برنامج لتنهار المؤسسة فوراً، إلا إذا استغل فريق آخر الانسحاب الأميركي لملء الفراغ، كما يحصل دائماً. علماً أن مئة دولار فوق الطاولة من هنا يمكن أن تقابلها مئة دولار تحت الطاولة من هناك، ناهيك وسواء عن أن تأثيرها السياسي سيبقى ضئيلاً، بدليل ما أنفقته السعودية هباء طوال العقدين الماضيين. معرفة أين تدفع وكيف ولماذا أهم بكثير من «الدفع بالجملة» الذي تورط سفارة الولايات المتحدة نفسها به: يمكن لواشنطن أن تدفع فوق الطاولة مئة دولار لـ27500 عنصر، ويمكن لغيرها أن يدفع تحت الطاولة ألف دولار لـ2750 عنصراً مهماً لمنعها من تحقيق غاياتها، في هذه المؤسسة أو في غيرها من المؤسسات. ولواشنطن تجارب مماثلة في مؤسسات أمنية لبنانية وعراقية وسورية، وسفارات. وقد سبق لخصوم الولايات المتحدة أن أعدوا خطة محكمة لسحب المفاتيح الأساسية لواشنطن في الإعلام اللبناني عبر تأمين رواتب مضاعفة لما يصرفه وكلاء السفارة لهم، لكن قراراً أخلاقياً أعلى حرّم إضاعة الأموال على هؤلاء، لا سيما أن تأثيرهم محدود.