في اجتماعها الثالث، الثلاثاء الماضي، ردّت هيئة المندوبين في نقابة المهندسين قطع الحساب الذي وافقت عليه أكثريّة أعضاء مجلس النقابة عن الفترة بين 1 آذار 2022 و28 شباط 2023. أكثر من 60 مندوباً (من بينهم أربعة فقط اعترضوا وطالبوا بتوضيح الأرقام) قرّروا ردّ مشروع قطع الحساب لأنه مشوب بعيب جوهري يتعلق بالأرقام الواردة فيه، ما حال دون فهمها أو التدقيق فيها بسبب الأخطاء التي شابتها وأدّت إلى حساباتٍ غير واضحة وغير منطقيّة. وعليه، ينتظر أن ينهي الأمين المالي المُنتخب منذ أيّام، علي درويش، الصيغة الجديدة لقطع الحساب بمساعدة لجنة ماليّة من 8 أعضاء انبثقت من الهيئة بهدف تسريع المصادقة عليها. وطالب بعض الأعضاء درويش بمسح الموجودات الماليّة والمعنويّة للنقابة، على أن تُخصّص جلسة للنقاش حولها.القرار كان متوقّعاً لعدم إمكان قبول أي جهة رقابيّة فعلية بمشروع قطع حساب بالصيغة التي أحالها مجلس النقابة، واعتمد فيها أمين المال السابق شارل فاخوري تعددية أسعار الصرف للإيرادات والنفقات، إذ إن قسماً من الحسابات سُجّل بالليرة، وقسماً ثانياً بـ«لولار» بحسب منصّة صيرفة اليوميّة على مدى عام كامل، وقسماً ثالثاً بالدولار الفريش، ما أدى إلى ضياعٍ تام في احتساب الخسائر التي سجّلها صندوق التقديمات الاجتماعيّة. ففي مقابل تقديرات بعجز مالي يبلغ سبعة ملايين دولار، يؤكد تقرير المدقق الخارجي الذي استقدمته الهيئة وجود فائض في صناديق النقابة بقيمة 1400 مليار ليرة!

لا شفافيّة
هي «فضيحة ماليّة» بحسب أعضاء في الهيئة، إذ «لم يسبق لمجلس النقابة أن أحال صيغةً مُشابهة». ويلفت هؤلاء إلى أنّ «رفض قطع الحساب جاء في الشكل، مع عدم إمكان الغوْص في التفاصيل ليتبيّن ما إذا كان يتضمّن سرقة أو فساداً أو زيادة في النفقات...». أفدح الأمثلة كان في صندوق المهندسين المتقاعدين الذي يُبيّن قطع الحساب أنّ 121 مليون دولار دخلت إلى الصندوق، سجّلت على أنّها 30 مليار ليرة. ولدى سؤال أمين المال عن الاختلاف في الأرقام، أجاب بأنّه احتسب سعر صرف الدولار بقيمة 29 ألف ليرة للدولار!
ما يزيد الأمر سوءاً، بالنسبة إلى أعضاء الهيئة، غياب الشفافيّة؛ فقد «تبخّرت» الإيصالات التي تبيّن حجم الأموال التي تمّ تحويلها إلى دولار عبر منصّة «صيرفة» ولم تُدرَج في قطع الحساب، واكتفى فاخوري بعدما طالبه بها الأعضاء بعرضها في جداول عبر شاشة كبيرة داخل القاعة، من دون أن يتمكن الأعضاء من التدقيق فيها لعدم حصولهم على نسخةٍ عنها. غياب الإيصالات يثير لدى بعض الأعضاء شكوكاً حول قيام بعض المعنيين بصرف الأموال في السوق السوداء، ما يحوّل النقابة إلى مضارب على العملة الوطنيّة. وهو ما ينفيه أعضاء في مجلس النقابة، مؤكدين أنّ الإيصالات موجودة في الملف.
أمّا في مضمون قطع الحساب، فلكل طرف روايته الخاصة. البعض يُبرّر حجم الخسائر بانخفاض عدد المهندسين الذين سدّدوا اشتراكاتهم (أكثر من 7 آلاف مهندس تخلّفوا عن الدفع عام 2022) وانخفاض إيرادات البناء ورخصها بسبب إضراب الموظفين في الإدارات العامّة، إذ إنّ الأرباح التي كانت تُسجّل سابقاً في أمتار البناء كانت تصل إلى أكثر من 12 مليون دولار، فيما لم تتعدّ الـ 8 ملايين دولار. أضف إلى ذلك أنّ النقابة، بعد الأزمة الاقتصاديّة واحتجاز أموالها في المصارف وتوقّف كثير من الأعمال خلال جائحة «كورونا»، تحتاج إلى سنواتٍ لتتمكّن من «تذويب» خسائرها.
في المقابل، يعزو أعضاء في هيئة المندوبين العجز المُسجّل إلى «سوء الإدارة»، وخصوصاً أنّ الاشتراكات ورسوم فرق التأمين جرى استيفاؤها بالدولار، كما أنّ معظم الرسوم على المعاملات التي استوفتها النقابة بعد شهر أيلول الماضي كانت بالدولار وسُجّلت في موازنة السنة الماضية على أنّها مستوفاة بالليرة، إضافة إلى ارتفاع أرباح أمتار البناء مليونَي دولار عمّا كان متوقّعاً في موازنة 2022 (6 ملايين دولار)، وأرباح جنتها النقابة عبر الاستفادة من معدّلات صرف الدولار.
«كلّ هذه الأرباح غير المتوقّعة قلّلت من حجم العجز الناتج من عشوائيّة في اتخاذ القرارات وعدم الخبرة في الشؤون الماليّة، وإلا كان من المفترض أن تُحقق الصناديق أرباحاً عن موازنة 2022 التي احتسب فيها الدولار بقيمته الحقيقيّة على عكس موازنتَي 2020 و2021 اللتين اعتمدتا اللولار وأنتجتا عجزاً»، وفق بعض الأعضاء، معتبرين أنّ «الخسارة الكبرى التي مُنيت بها النقابة كانت بفعل تخزين 360 مليار ليرة في خزائن النقابة بعدما أصدر المصرف المركزي تعميماً بمنع المؤسسات الكبرى من استخدام منصّة صيرفة، فيما كان الأجدى دفع مستحقات المستشفيات التي كان الاتفاق معها يقضي بتسديدها على سعر 1500 ليرة، قبل أن تعدّل الاتفاق مع نهاية العام». وعليه، يفترض هؤلاء أنّ ما تم دفعه للمستشفيات بـ«لولار» كان يمكن دفعه بالليرة ليسجّل ميزان المدفوعات أرباحاً بدلاً من الخسائر في صندوق التقديمات الاجتماعيّة.
تُحصي التقديرات كسراً مالياً بلغ أكثر من 7 ملايين دولار


التناقض في الروايات عن أسباب العجز مردّه أمر واحد: قطع حساب يكاد يكون «وهمياً»، إذ إنّ مجلس النقابة ارتكب خطأ فادحاً وضربت «ماليّته» بمعايير المحاسبة الفعليّة عرض الحائط، وهي التي توصي باعتماد أقرب سعر لاحتساب المداخيل والمدفوعات، فيما اعتمدت النقابة تعددية في الأسعار أفضت إلى اختلافٍ شاسعٍ في الفوارق بين سعر الدولار الرسمي (1500) وسعره الحقيقي في السوق السوداء!
وبالتالي، فإنّ هذه الأرقام المُستخدمة في قطع الحساب «لا تعبّر عن الواقع»، وفق خلاصات خبراء التدقيق الذين أشرفوا على عمليّات التدقيق على حسابات المصارف التي اختلطت فيها أرقام الدولار الحقيقيّة مع تلك المعتمدة رسمياً.
ما يخشى منه البعض هو أنّ صيغة قطع الحساب بهذه الطريقة لم يكن سببها قلّة الخبرة، بقدر ما هي آلية اعتمدت عن قصد لـ«طمس الخسائر» عبر «خلط الأرقام». ما يعزّز هذه النظريّة هو عدم الاعتراف برقم موحّد للعجز الذي تم تسجيله العام الماضي، لتتحوّل الخسائر إلى لغزٍ!



أموال «المهندسين»... شيكات مصرفيّة لدى الكتّاب العدل!
تمتلك نقابة المهندسين مدّخرات بالدولار بقيمة إجماليّة تصل إلى 234 مليون دولار، موزّعة على 14 مصرفاً في لبنان، هي: «الموارد»، «عوده»، «فرنسبنك»، «البحر الأبيض المتوسّط»، «بيبلوس»، «الاعتماد اللبناني»، «اللبناني الفرنسي»، «لبنان والمهجر»، «الاعتماد المصرفي»، «فرست ناشونال بنك»، «البنك اللبناني العالمي»، «انتركونتينتال بنك»، «لبنان والخليج»، «سوسيتيه جنرال».
وتتوزّع موجودات النقابة بين 638 ألف دولار في حسابات فريش دولار، و8 ملايين و500 ألف دولار كحسابات جارية، و206 ملايين دولار تعتبرها النقابة كتكلة نقديّة «محظورة» (Blocked accounts) و18 مليون دولار في حسابات محظورة تمت المطالبة بها.
وحاولت نقابة المهندسين السنة الماضية مقاضاة مصرفَي «فرنسبنك» و«لبنان والمهجر» بعدما تمنّعا عن تسليمها مبلغاً من حساباتها الموجودة لديهما بالدولار، فردّ «فرنسبنك» بإقفال حساب النقابة وإيداع مجموع الحساب الذي يتضمّن نحو 20 مليون دولار و35 مليار ليرة بشيك مصرفي لدى الكاتب العدل. كما أقفل «لبنان والمهجر» حسابات النقابة وأودع شيكاً مصرفياً بنحو 17 مليون دولار و250 مليون ليرة لدى الكاتب العدل. ويتردد أن النقابة تقوم بوساطات منذ أكثر من 4 أشهر مع إدارتَي المصرفين لإعادة فتح الحسابات مع المبالغ المودعة لدى الكُتّاب العدل!


5 ملايين دولار مفقودة
يتداول بعض المهندسين أخباراً عن فقدان نحو 5 ملايين دولار من دون أن يتمكّن المسؤولون في نقابة المهندسين من تحديد مكانها، مشيرين الى استعراض هذا الملف في أحد اجتماعات هيئة المندوبين بعدما كشف عنه عضو مجلس النقابة السابق علي حناوي. وهذه الأموال هي استثمارٍ قامت به النقابة في عهد النقيب جاد ثابت عبر شراء أسهم في أحد المصارف الأميركيّة، وأُعيدت في عهد النقيب الحالي عارف ياسين، فيما يبدو اقتفاء أثر هذه الأموال مستحيلاً مع تعدّد الروايات، ومنها ما يؤكد أنّ الأموال موجودة، في مقابل رواية تؤكد أن أحد المصارف رفض وضعها في حسابات الفريش الدولار وأبقاها ضمن المدّخرات المحتجزة، أما أكثر الروايات غرابةً قهي التي يقول أصحابها إنّه تبيّن أخيراً أنّ «الاستثمار لم يكن موجوداً أصلاً»!