في أحد أزقة مخيم مار الياس في بيروت، تجلس أمينة القاضي تحت ظل راية فلسطينية نُشرت فوق مسار المارة في المخيم الصغير. اعتادت الجلوس أمام منزلها في كل الأوقات، قبالة رايات حركة فتح وصور الرئيس ياسر عرفات والشهداء. اكتسبت البيروتية عادات أهل المخيم مذْ تزوجت الفدائي محمود الغربي بداية الثمانينيات وأقامت معه هنا. بعد استشهاده خلال حصار بيروت عام 1982، رفضت ابنة العشرين عاماً ترك المخيم والعودة إلى منزل أهلها مع طفليها الرضيعين. بين المخيم ومثواه، في جبانة شهداء فلسطين في شاتيلا، نذرت القاضي ما تبقّى من حياتها للقضية. ليست حالة فريدة في ذلك الزمن الذي توحّدت فيه المقاومتان الفلسطينية واللبنانية بوجه العدو الإسرائيلي. إلا أنها عايشت تجارب كانت غريبة للبعض. فدائيون من أميركا اللاتينية واليابان وأوروبا والمغرب العربي... تركوا التزاماتهم وأحباءهم ونجاحاتهم في مساقط رؤوسهم، وجاؤوا ليساهموا في تحرير لبنان وفلسطين. في الزقاق الموازي، حيث مقر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، يسكن «أبو السعيد». إيراني الأصل، قاده الاجتياح الإسرائيلي الكبير عام 1982 من ألمانيا، وقرّر أن يمضي ما تبقّى من عمره هنا، موصياً بأن يدفن في مثوى شهداء فلسطين. لم يمرّ الزمن على «الرفيق أبو السعيد». لا يزال عالقاً في «نوستالجيا» الفدائي الجاهز للالتحاق بجبهات الصراع ضد الإمبريالية والصهيونية أينما كان في العالم. وضعية الاستنفار والجهوزية المستمرة لديه منذ السبعينيات، منعته من الزواج وتأسيس عائلة. لا يزال يعرّف عن نفسه حتى الآن بأنه «مقاتل ميداني في المقاومة الفلسطينية - الجبهة الشعبية».
ينحدر «أبو السعيد» من جنوب غرب إيران. في سن المراهقة، شارك في تظاهرات أحزاب اليسار ضد نظام الشاه. لوحق واعتقل وهُدد، ما دفعه للمغادرة عام 1977 إلى ألمانيا لمتابعة دراسته. هناك، شارك بكثافة في أنشطة اتحاد الطلبة الإيرانيين ضد نظام الشاه والدول التي تدعمه وضد الإمبريالية الأميركية ودعماً للقضية الفلسطينية «لأن الطلاب الفلسطينيين كانوا ممنوعين من إقامة الأنشطة، ولا سيما الرفاق في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين». تحفظ ذاكرته تحركات ضد اتفاقية كامب ديفيد وزيارة الرئيس الأميركي جيمي كارتر لفرانكفورت وضد المصالح اليهودية والإيرانية والقنصلية الأميركية... أدّى «أبو السعيد» واجبه ضد الإمبريالية والصهيونية في ألمانيا بما تيسّر له. لكنّ غليله الثوري لم يُشف إلا بعدما سمع نداء منظمة التحرير الفلسطينية عبر إذاعة الوفاء، عقب اجتياح بيروت عام 1982، يقول: «يا أحرار العالم قوموا فدافعوا عن ثورتكم». من دون تفكير، لبّى النداء مع ثلاثة رفاق إيرانيين. التحق بالجبهة الشعبية في سوريا، ومنها انتقل إلى لبنان. لم يسأله قادة العسكر الذين استقبلوه عن اسمه وجنسيته لأن «هذه التفاصيل غير مهمة أمام الالتزام الأممي بقضايا الشعوب المضطهدة». اختار لقب «أبو السعيد» لأسباب لا يزال يتكتم عنها.
سريعاً، انخرط في عمليات كبرى في بيروت والجبل والجنوب، هو الذي حمل خبرة عسكرية متطورة من خدمته الإلزامية في سلاح المدرعات في الجيش الإيراني. أولى مشاركاته كانت في التصدي لتقدم الجيش الإسرائيلي من بيروت نحو الجبل. يبدو كرادار خلال استعراضه للمواقع التي تنقّل بينها. لا يزال يحفظ جبال كفرسلوان وترشيش وبراري العبادية وعاريا وقرنايل وقرصون... يروي بدقة كيف قصف بصواريخ «غراد» مواقع للاحتلال في بعبدا، وكيف رصد مقر الاستخبارات في الكحالة. يتوقف عند أولى عملياته الميدانية في تشرين الأول عام 1982: «جهّزت نفسي لعملية استشهادية بموكب إسرائيلي كان سيمر من الكحالة في اتجاه عاليه بعد رصد سابق لأيام وتحديد الهدف عند مفترق شويت. سرت من أحراج رأس المتن باتجاه العبادية. مرّت آلية فيها جنديان، فانقضضت عليهما وأفرغت رشاشي فيهما». العملية الثانية البارزة، كانت في عام 1983 ضد حافلة تقلّ جنوداً إسرائيليين، اعترف إعلام العدو بسقوط قتيلين و11 جريحاً فيها.
جئت إلى لبنان استشهادياً ونجوت مرات من الموت فكيف أعود منه حياً بإرادتي؟


لم تكتمل فرحة «أبو السعيد» بتحرير الجبل من الاحتلال الإسرائيلي. في اليوم التالي، في آب 1983، بدأت حرب الجبل. انتقل إلى جبهة أخرى. من دوحة عرمون، دكّ قاعدة الجيش الأميركي في مطار بيروت. «في إحدى المرات، ردّت بارجة نيوجرسي من شاطئ السعديات على مصادر النيران، فاستشهد رفيق يمني». عام 1988، شارك في تفجير عبوة بسيارة تقلّ عناصر استخبارات اسرائيلية في وادي بسري. وفي 27 تشرين الأول 1990، قاد عملية مراح البيرة في سفح جبل الشيخ. لأيام طويلة، تقدم مجموعته سيراً من البقاع الغربي باتجاه راشيا حتى العرقوب: «كنا استشهاديين هدفنا التسلل إلى عمق فلسطين المحتلة. وقعنا في كمين عند محور شويا - شبعا. اشتبكنا مع العدو، فسقط الشهيد طلال عطية من كفرشوبا. كان معنا التونسي محمد مقداد خليفة الذي كان مجهّزاً بثلاثة كيلوغرامات تي أن تي. تقدّم باتجاه الجنود وفجّر نفسه فيهم. اعترف العدو يومها بسقوط ستة قتلى في عملية نفّذتها مجموعة كوماندوس تابعة للجبهة الشعبية»، فيما تمكّن «أبو السعيد» ومن تبقّى من رفاقه من الانسحاب.
عام 1996، شهد آخر عمليات «أبو السعيد». كان مسؤول وحدة حاولت تنفيذ عملية عند محور برعشيت ولم تفلح. توقف الأنشطة العسكرية للجبهة الشعبية لم يحبطه أو يعيده إلى بلده على غرار كثيرين من رفاقه: «جئت لأقاتل من أجل فلسطين ولبنان بوجه العدو الإسرائيلي. لذا لن أترك ساحة القتال ما دام الاستعمار والاستبداد قائميْن. في الأساس، جئت إلى لبنان استشهادياً، ونجوت مرات عدة من الموت المحتوم. فكيف أعود منه حياً بإرادتي؟».
إضافة إلى مَهماته الداخلية في «الجبهة الشعبية» كعضو لجنة مركزية، يعيش «أبو السعيد» بين صور الشهداء وملصقات العمليات وجبّانة الشهداء في شاتيلا. في مكتبه، صورة الشهيد «مظفر». لا يعرف عنه أكثر من أنه إيراني جاء من ألمانيا والتحق بالعمل الخارجي للجبهة بقيادة وديع حداد. تسلّل من الجنوب إلى فلسطين المحتلة واستشهد في عملية «سينما حين» في تل أبيب عام 1973. هناك أيضاً الإيراني شمس الدين كاظمي الذي استشهد عام 1974 في العمل الخارجي. تبادل الأسرى بين العدو وحزب الله في تموز 2008، أعاد نكء جراحه. يومها استُرجع رفات 35 شهيداً للجبهة منهم رفاق عمليات له، بينهم عطية وخليفة شهيدا عملية مراح البيرة والمغربي مصطفى قزبير. قبلهما، ودّع شهداء إيرانيين سقطوا في حرب الجبل وحرب المخيمات، منهم أحمد حسين نجاد الذي دُفن في سوريا، إضافة إلى شهداء سوريين وعراقيين ونيجيريين.